تاريخ النشر : يونيو 1984
جريدة : الجمهورية
أخذت تكاليف إنشاء المستشفيات في الارتفاع المتزايد في السنوات القليلة الماضية ،وقد يكون من أسباب هذا الارتفاع العام الذي شمل أسعار الخدمات ومستلزمات البناء والتجهيز ،ولكن المؤكد أن ارتفاع مستوى الخدمات الصحية المتاحة أو التي أصبحت متاحة كان هو العامل الأكثر إسهاما في هذا الارتفاع.
فمما لا شك فيه أن مستوى أداء المؤسسات والمنشآت الصحية قد أصبح يواجه تحديات واضحة مع التطور السريع الذي أصاب كل جزئيات الخدمة الطبية في جميع مراحلها : التشخيص والعلاج.
وكما يصدق هذا على الشرائح العليا من المجتمع فإنه يصدق كذلك على الشرائح المتوسطة والدنيا من المجتمع ،تماما كالحال في الجوانب المختلفة من مكونات الحضارة، التي أتاحت على سبيل المثال لأهالي الكفر الصغير أن يتمتعوا اليوم بحوالي عشرين فيديو في القرية التي لم يكن بها منذ ربع قرن إلا جهاز راديو واحد.
من هنا كان الانعكاس الهام لتطور الخدمة الطبية على مدى استفادة الجماهير العريضة منها وأصبحت القضية اليوم هي : كيف يمكن للمؤسسات الصحية سواء المملوكة للدولة أو التي تديرها الدولة أو التي تعينها الدولة أو التي تراقبها الدولة أن تفلح في تلبية حاجة المواطن إلى الخدمة الصحية؟؟
وقد أتيحت ظروف ممتازة لبعض المؤسسات الطبية القديمة لكي تجد لنفسها مكانا تحت الشمس بعد التجديد أو الإضافة أو الإحلال والتبديل ، ولكن هذه الظروف لم تتح حتى الآن لهذه الوحدات الصحية المنتشرة من خلال مشروع الوحدات المجمعة التي نشرتها الثورة منذ الستينات في هذا الوطن.
وسواء صح أو لم يصح أن مصر فاقت أمريكا في نشر هذه الوحدات ،فإن الزمن اليوم يطالبنا بالإفادة من هذه المؤسسات الطبية التي قد يخلو بعضها من كل مستلزمات الخدمة الطبية العصرية….اللهم إلا الأطباء المعزولين عن العلم والتعليم المستمر.
قد يكون من المفيد أن نلخص الموقف الذي صارت إليه معظم هذه الوحدات التي لا تتميز اليوم عن عيادة خاصة لممارس عام إلا بانضوائها تحت علم ، وبافتقادها عنصر الانتماء إلى عنصر بشري حريص عليها ، وبخاصة أنها على الجانب الآخر لا تملك العناصر الجاذبة أو الدافئة لإظهار الانتماء إليها.
ولكن ما هي الإيجابيات التي تدفعنا إلى الحرص على الإفادة من هذه المؤسسات في وضعها القائم أو على وضعها القائم؟؟؟
قد يكون أول هذه الإيجابيات هو العنصر البشري الذي ارتبط بها ، وبصفة خاصة من خارج طبقة الأطباء ،من العاملين في المهن الطبية المساعدة حيث أصبح هؤلاء في المجتمع المحلي يمثلون فيما ( أيا كانت) مرتبطة بالخدمة الطبية.
ولعل ثاني هذه الإيجابيات هو الكيان المعنوي الذي تكون عبر سنوات طويلة شب فيها جيل ،فوعى أن هذه المؤسسة مرتبطة بخدمة صحته وحياته….
وثالث هذه الإيجابيات هو الكيان المادي المتمثل في أبنية هذه المؤسسات وما فيها من تجهيزات مهما قل شأنها فهي كفيلة بالقيام بدور ما ضمن دور أكبر لذات المنشاة في المستقبل.
وهكذا نستطيع أن ننصرف إلى تجهيز هذه الوحدات لتلعب دور أقسام متخصصة مرتبطة بالمستشفى الأميري أو المركزي الذي يقع على بعد كيلومترات من هذه الوحدات.
وفي العالم كله وفي مصر تنفصل بعض الأقسام عن المستشفيات الكبيرة لتكون مستشفيات متخصصة مرتبطة (أو غير مرتبطة) بالمستشفى الأم.
وفي القصر العيني ينفصل قسم الأطفال في مستشفيين خاصين هما ” أبو الريش القديم” و “أبو الريش الجديد” وهما على شاطئ آخر من النيل الذي يقع عليه قصر العيني نفسه، بل وفي حي غير الحي وقسم شرطة غير القسم.
وفي جميع بلاد القطر نجد تقليدا (إنجليزيا في الأغلب) يفصل مستشفيات الرمد ومستشفيات الحميات ومستشفيات الصدر عن المستشفيات العامة، سواء لأسباب طبية ظاهرة أو لمجرد أسباب تنظيمية متعلقة بالخبرة في إدارة المستشفيات.
بمثل هذا الإجراء نستطيع أن نضع إستراتيجية واضحة لتحويل تدريجي للوحدات الريفية إلى مستشفيات متخصصة صغرى تخدم المناطق المحيطة ، ونتيح للأقسام الباقية في المستشفى الكبير (العام أو المركزي) أن تتوسع داخل نفس السور القديم وبدون الدخول في الحلقات المفرغة في بناء منشآت جديدة في بلد يعاني من عدم القدرة على بناءات كثيرة، ومن كثرة المنشآت التي لا تجد الاستغلال الأمثل.
وبمثل هذه العقلية يمكن لنا أن نتيح الفرصة أمام أقسام الجراحات المتخصصة لتأخذ دورها في خدمة هذه المجتمع على امتداد هذا الوطن وبأيسر التكاليف وأسرعها في الوقت نفسه، وأكثرها ملائمة للانقسام الطبيعي الذي يكون في الخدمات الحية التي نطمح لها في استمرار الحياة.
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا