بقلم : شريف عبد الغني
تاريخ النشر : 23 مارس2015
جريدة : العرب القطرية
أواخر العام 2007 كنت أعد تقريراً عن أحداث تاريخية متعلقة بقناة السويس، كان من أوائل مَن قررت الاستعانة بآرائهم الدكتور محمد الجوادي، الرجل في سنوات معدودة فرض نفسه ضمن قائمة أبرز المؤرخين المصريين، وانتشرت كتاباته وحكاياته في العديد من المطبوعات.
اتصلت به، كانت المرة الأولى التي أسمع فيها صوته، رد مرحبا. شعرت من نبراته وبساطة عباراته أنه ليس من ذلك النوع «النخبوي المقعّر» بلغته الفوقية المتعالية، أجاب بصدر رحب عن كل تساؤلاتي.
في ختام المكالمة، شكرته وقلت له أنت يا دكتور «مفكر ومؤرخ» كبير وسأقدمك بهذا اللقب في التقرير، ضحك وقال: "يا عم صلّي علي النبي.. ولا كبير ولا حاجة "
منذ ذلك اليوم أخذت انطباعاً جيداً عن د.الجوادي، أنه متواضع تواضع الكبار، هو كبير بحق، ربما لم يعلم كثيرون إلا متأخراً أنه أستاذ في كلية الطب.
في ظل ظروف عمله وانشغاله بالجامعة لا أدري كيف أتى بالوقت والجهد الذي جعله يغوص في بحور التاريخ ويخرج من دهاليزه وكواليسه ليقدمه بأسلوب سلس، ويحكي لمتابعيه وقرائه، ولاحقاً مشاهديه، التاريخ الحقيقي، بدلا من ذلك «الصنف المزيف» الذي طبعوه في الكتب المدرسية وحشوا عقولنا به لمحو ذاكرة الأمة واقتيادها إلى حيث يريدون، لولا أن خرج الجوادي وأمثاله لينيروا الطريق أمام عدة أجيال كادت تتشوه نفسيتها بفعل المعلومات المغلوطة والأكاذيب التي عبأ بها «مؤرخو العسكر» رؤوسهم طوال 60 عاماً وأكثر.
مع فورة الفضائيات وكثرتها ووجود مساحة حرية نسبية لتلك القنوات أواخر عهد مبارك، كان د.الجوادي ضيفاً دائماً على كثير من الفضائيات.
وهنا بدأت نجوميته الحقيقية عند العامة الذين لا يتابعون الصحف، دخل الجوادي بيوت المصريين عبر الشاشة، فسكن في قلوب قطاع كبير منهم، أحبه البسطاء، وجدوه واحداً منهم، لا يستخدم لغة وعبارات صعبة عليهم، فضلا عن أن الله وهبه قدرة الاسترسال في الكلام لكنه مرتب، والألفاظ غير مكررة، ولا ملل فيه، فيدخل القلب والعقل مباشرة.
المواقف تظهر معادن الرجال، ما حدث في مصر بعد 30 يونيو 2013 أظهر أن محمد الجوادي «راجل من ظهر راجل من صُلب راجل»، كثيرون احتاروا وتساءلوا «ثورة دي ولا انقلاب».
خرج الجوادي وقالها صريحة: «انقلاب.. انقلاب». تكلم في وقت لا مجال فيه للسكات، صمت آخرون، تبين لنا أن كلامهم الذي صدعونا به طوال عمرهم عن «الديمقراطية» هو مجرد ثرثرة على مقهى «ريش». انحنوا يلعقون" بيادات" ثقيلة تدهس إرادة الناخبين. اختفت «الشوارب» داخل «جوارب» نتنة لعصابة من الأميين وأشباههم ألقوا بأصوات الشعب ودستوره في صناديق القمامة.
مع بداية قص شريط المذابح في فجر يوم رمضاني أمام دار الحرس الجمهوري، ومع سيل الطلقات الذي انهمر كالمطر على «الركّع السجود»، لم يعد الموقف يظهر" الرجل" من "عواطف" ولا "الجدع" من "الطرطور". دخلنا مرحلة "الإنسان" و "اللا إنسان ".
لقد نزع الانقلاب الدموي «الفطرة الإنسانية» من قلوب مؤيديه ومغيبيه. الفطرة تقول إن الإنسان يتعاطف مع الضحية وليس الجاني، مع القتيل وليس القاتل. لكن رأينا من «نخبتنا–خيبتنا» من يفعل العكس، ويشمت في الضحايا ويصفهم بـ «الإرهابيين».
أخرجوا الشعار الذي نشره إعلام «الواد والبت» عنواناً لمرحلة «مصر الغابة»:"خلي البلد تنظف "
مثلما ظهرت «رجولة» الجوادي من قبل، فقد ظهرت «إنسانيته» وفضح القاتل، وقال لـ «الغولة»: «عينيك حمرة»، ولم يدخل في زمرة المنافقين فاقدي الرجولة والإنسانية الذين نافقوها: "محلاكي جميلة الصورة "
يروّج إعلام «الواد والبت» أن مؤيدي المسار الديمقراطي الذين يظهرون على شاشة «الجزيرة» وغيرها لـ «يدعون إلى الإرهاب» –بحسب تعبير إعلاميي الغبرة– هم مجموعة من المرتزقة الفاشلين المغمورين الباحثين عن الشهرة، والذين باعوا «ماسر» أمام دولارات "الفضائيات الإرهابية "».
ولأنهم، كما كبيرهم الذي يوجههم بإشارة من إصبعه، كذابون في أصل وشهم، فإنهم يفشلون في صناعة كذبة محبوكة يمكن أن يصدقها عقل طفل.
الدكتور محمد الجوادي مثال، الرجل كان ملء السمع والبصر في مصر، أكاديمياً محترماً، مؤرخاً مرموقاً، نجماً في الفضائيات؛ لنتخيل مثلا لو أن الجوادي بقامته وقيمته انضم لـ «شلة» منافقي العصابة وجعل نفسه مثل غيره صبياً من صبيانها، ألم تكن الأموال ستأتيه من حيث لا يحتسب والمناصب ستجري خلفه؟ّ أثق أنهم كانوا سيسندون إليه أية وزارة يختارها، ومعها هدية صغيرة عبارة عن مركز أبحاث ممول من موردي «الرز»، وكان مؤكداً أيضا –وقد فعلوها مع المناضلة سما المصري- أن ينشئوا له قناة فضائية تروي تاريخ العسكر الذين لا تنطفئ لهم نار ولا ينذل لهم جار، وتخيلوا المكاسب الإضافية التي كان الجوادي سيجنيها لو أطلق عليها قناة "مسافة السكة "
بعد مرحلة «الجزيرة» تحول الجوادي إلى نجم عربي، نظرة بسيطة على قائمة متابعيه ومحبيه على موقع «تويتر» تكشف أنه صار محط تقدير وإعجاب الأشقاء العرب، فالرجل حكّاء خطير لا تغيب عنه «خفة الدم»، فضلا عن أنهم لمسوا فيه الروح المصرية الأصيلة التي أحبوا المحروسة من خلالها. روح عنفوان «السيد صاحب المبدأ، وليس ذل «العبد» الوضيع العاشق لـ "الرز الخليجي"
الجوادي دفع ويدفع الثمن نتيجة موقفه، غربة عن بلده، فصل من عمله الجامعي، وضع على قوائم «ترقب الوصول» ليذهبوا به إلى ما وراء الشمس، لكنه صامد، ثابت على موقفه، إنه يلعب دوراً شبيهاً بالدور الذي لعبه عبدا لله النديم الكاتب الثائر والأديب المبدع أيام الثورة العرابية. كان «النديم» خطيباً للثورة.. والآن الجوادي «نديماً» للثورة.