تاريخ النشر : 31/03/2015
ابدأ مباشرة بالقول بأني لا أعارض الذين يقولون إن الحسابات الأميركية بلغت حدا غير مسبوق من الدقة والمهارة فيما يخص التوقعات التفاعلية والدينامية السياسية.
وقد تحقق هذا بفضل التفوق الأميركي المطلق في ثلاث خصال يتميز بها أهل العلم الحقيقيون على وجه العموم وهي الجدية والدأب والاستيعاب، وبفضل سمتين بارزتين يتسم بهما العلم في أميركا بصفة خاصة وهما الإنفاق السخي وتعدد مراكز البحوث وما يؤمنه هذا التعدد من اتساع في مجال الرؤية إلى حد الجمع بين النقيضين في كثير جدا من الأحيان.
على أن هذه الدقة تلازمت مع نوع مما نسميه ضيق الأفق الميكروسكوبي وهو ضيق كان لا بد له أن يلازمها، وهو بعبارة مبسطة ذلك الفهم الأنبوبي المعروف والمرتبط بالعجز الطبيعي أو المتوقع عن قياس الميتافيزيقيات بما تقاس به العناصر القابلة للقياس الفيزيقي.
ومن الإنصاف أن نقول إن أية محاولة في هذا المجال لا تعدو أن تكون جهدا عبثيا فضلا عن أنها تفتح الباب واسعا للتخلص من سطوة القياسات تحت دعوى ما هو غير منظور وما هو غير قابل للقياس.
على أن حل مثل هذه الإشكالية لا يزال ممكنا بلغة العلم التي تتحرز بلغة القانون فتقول: إن المعادلة صحيحة مع اشتراط بقاء العوامل على ما هي عليه، ومع اشترط عدم ظهور آليات جديدة غير متوقعة أو عوامل محفزة أو مثبطة للتفاعل..
لكن طبيعة الحياة البشرية بكل خصوصياتها المميزة لها عن الحيوات المادية قد تفرض علينا أن نتأمل في هذا الذي يسمى تحرزا قانونيا على أنه لا يعدو أن يكون للأسف الشديد نوعا كاملا من التحرش بالطبيعة الكونية، وهو تحرش يتصور الطبيعة من باب الخطأ كائنا قابلا للاستجابة المطلقة له ولرغباته أو تطلعاته أو لتحقيق نزواته بعيدا عن حقها (أي حق الطبيعة) في الإرادة والقبول وتحديد التوقيت والإطار والترتيب.
وحين يصبح طابع النزاع البشري (سياسيا كان أو غير سياسي) متسما بأنه ضد الطبيعة وقوانينها فإن الطبيعة تضمن الفوز الأكيد بحكم ما منحه لها الخالق الأعظم من قوة القانون الطبيعي (أو ما نسميه الناموس الأعظم) الذي استبقى للحياة وجودها رغم كل ما تبدي من عبث الأحياء الدائب بالموجودات وظنهم المفرط في إمكان فوز قدراتهم المتنامية في سجال قهر الطبيعة وتطويعها بلا حدود.
وقريب جدا من هذا التصور ما حدث للسياسة الأميركية في موضوع العلاقة بالإسلام والمسلمين في العقود الأربعة الماضية.
وربما أبدأ بالإشارة إلى رؤية مختلفة لي فيما يتعلق بجوهر الأمر في حقيقة سياسية اجتماعية لا تزال كل مراكز البحوث الأميركية تتحاشاها تماما عن قصد، وهي أن موجة المواجهة الحالية مع الإسلام السياسي قد بدأت معطياتها الحاكمة على يد وزير الداخلية المصري اللواء زكي بدر (1986- 1990).
وكان جوهر هذه المواجهة -التي لم يكن هناك مسوغ حقيقي لوجودها- يكمن في تبني الوزير المفرط (ووراءه دولة محورية ورئيس مؤيد) لسياسة غريبة وشاذة (وجديدة في وقتها وإن أصبحت الآن: تقليدية) تقوم على فكرة أن الملاحقين السياسيين (حقا أو ظلما) لا ينبغي أن يعاملوا معاملة مختلفة عن الجنائيين، وإنما ينبغي أن يعاملوا كمجرمين جنائيين تماما فيساموا (كعادة البوليس المصري مع المتهمين الجنائيين) القسوة والازدراء والاحتقار والتوبيخ والقذف والسب بصفة دائبة.
وفي هذا الإطار بدأ ذلك الوزير المعروف بالعنف والتجاوزات اللفظية خطوات متواترة ومتسارعة فأزال كل اللافتات التي كانت تنبه إلى طبيعة المسجونين السياسيين ومعتقلي أمن الدولة، زاعما أنه لا ينبغي أن يفرق بين هؤلاء وأولئك، لأنه ليس هناك فرق، وتمادي الوزير في تطبيق سياساته والإقناع بها على نحو مؤسسي عربي وإقليمي، وواتته الفرصة بما تمثل في النهاية في أكبر إنجاز تفاعلي وأنا أقصد ترجمة دقيقة وموجزة للكلمة الإنجليزية
réaction التي تعني في الفيزيقيا “رد الفعل” على نحو ما يقول قانون نيوتن وكان هذا رد الفعل هو حادث 11 سبتمبر/أيلول 2001.
وإذا أردنا فهما حقيقيا للأثر الإستراتيجي والأمني لما بدأه الوزير المصري من سياسات كارثية حظيت بإعجاب وزراء الداخلية العرب وتبنيهم لها(من خلال مجلسهم الذي تميز بانتظام وانضباط ودورية مواعيد اجتماعاته) لنبدأ بقراءة سيكولوجية مستوعبة وواعية لما حدث في 11 سبتمبر بمعزل عن الأهداف المتكررة والمكرورة من استثمار الحدث أو تطويعه على نحو ما حدث في أكوام الدراسات التي صيغت تغطية لقصور أو مطامع هنا أوهناك.
وأعتقد أن الحقيقة الأولى في هذا الصدد أن على السادة الأميركيين والساسة الأميركيين كذلك أن يعيدوا فهم آلية الاستشهاد في الإسلام بعيدا عن آفاق التشخيص المرضي الذي آثروه فيما مضى،وبطريقة بسيطة فإن فعل “الاستشهاد” عند الإنسان المسلم ينبغي أن يدرس في ضوء علم الفسيولوجيا (وظائف الأعضاء) قبل أن يدرس في ضوء علم الباثولوجيا (علم الأمراض) وبلغة أخرى أقرب فهما عند عامة المثقفين المعاصرين فإن فعل “الاستشهاد ينبغي أن يفهم في ضوء السيكولوجي (علم النفس) قبل أن يدرس من خلال السايكاتري “طب النفس”
وظني أن الأميركي إذا نجح في فهم فعل “الاستشهاد” وما يمثله من فسيولوجية وسيكولوجية فإنه سيكتشف مدى العبث الذي استغرق من الأميركيين ومراكز البحوث الغربية عقودا من الزمان في التعامل الخاطئ المعتمد على أفكار تلفيقية استسهل مروجوها تشخيص الحقائق على نحو زاد من تعقيد الأمور، واستعصائها على الحل بل على الفهم أيضا.
الحقيقة الثانية أن تفضيل اللجوء إلى اقتصار التعامل مع المجتمعات الإسلامية على الطريقة الإملائية التي تتبني آليات تكثيف غسيل المخ والتلقين وتركيم الإيحاءات النفسية (وليس تراكمها الذي قد يكون أقرب إلى الوضع الطبيعي) هذه الطريقة تعبر عن تعامل خطر يصيب من يتبناه (من أصحابه) بالضرر اللانهائي أو غير القابل للإصلاح لأنه يفقد هذه المجتمعات على اختلاف شيعها وطوائفها الثقة في هذا المتعامل (أو بالأحرى المملي) الذي تستند آلياته إلى الصناعة أو التصنع أو الافتعال، على حين تستند الفلسفة الإسلامية الجوهرية (دينا وحضارة وتاريخا) إلى احترام الفطرة وتغليبها في كل المكونات العقيدية والإيديولوجية (سياسة وإدارة وتجارة).
ومن ثم فإن الأسلوب المفضل عند الأميركيين في تعاطيهم مع الفكرة الإسلامية والنشطاء الإسلاميين المحدثين لا بد أن يعدل من نفسه مبكرا للدوران في اتجاه عقارب الساعة لا في عكس هذا الاتجاه حتى وإن كانت منظومته لمدة طويلة قد سارت مثلا على النظام الإنجليزي في المرور للشمال.
وتتضاعف أهمية هذه الفكرة البسيطة إذا ما انتبهنا إلى أن الأميركيين أنفسهم يلجؤون إليها في كثير من مجتمعاتهم المحلية في كثير من الإجراءات التي تنتظم حركيات المجتمع وطوائفه المختلفة أو علاقات المصالح المتضاربة لفئاته أو مؤسساته الاقتصادية، ومن باب أولى فإن الحاجة الإستراتيجية الملحة تقتضي من الساسة الأميركيين روحا أكثر مباشرة واستقامة كما تتطلب صدقا أكبر في التعبير عن النوايا والمخاوف حتى لو اقتضى الأمر الاعتراف صراحة بكراهية الإسلام والرغبة في توقيف أو وقف انتشاره.
فليس صعبا على المجتمعات الإسلامية أن تفهم هذا الدافع وتتعامل معه بما تتيحه لها الثقة العقيدية متمثلة في قانون الإسلام الحافل بعناصر مرونة نادرة يعبر عنها القرآن الكريم بوضوح في عبارات حاسمة وموحية وواثقة من قبيل: لكم دينكم ولي دين.
الحقيقة الثالثة أن غياب اتساق الفعل مع الرؤية هو ما أصبح يؤدي بالسياسات الأميركية إلى إدمان الفشل وتنامي الاضطراب في اختيارات القرار النهائي، ومع أن إعادة تأهيل الخطاب السياسي الأميركي ستستغرق وقتا ليس بقصير في ظل الآليات المتريثة لأي دولة كبيرة، فإن بعض الأمور الملحة لم تعد تحتمل تأجيل البت فيها.
وهنا أضرب مثلا بسيطا بعدد من الصحف المصرية المستقلة المدعومة أميركيا والتي صدرت تباعا منذ بدأت أميركا سياسات دعم التحول الديمقراطي، وقد أثبتت هذه الصحف نجاحات ملموسة كانت من الأسباب التي أدت إلى اندلاع ثورة 25 يناير ونجاحها البارق الملفت للأنظار، ثم إذا بهذه الصحف التي خلقت للديمقراطية (وإن أرادت النجاح فهي لا تصلح لغيرها) تدفع دفعا من بعض من يدعون صلتهم بالأميركيين الرسميين للسير في ركاب الانقلاب (تحت دعوى أنها مرحلة انتقالية سوف تعقبها خطوات العودة إلى حكم مدني) كما تحولت إلى استعمال جديد لم تخلق له، ولم تدرب عليه، وهو ترسيخ عبادة الفرد وعبادة البيادة وعبادة القهر.
ومع أن حقيقة الصورة لم تصل بعد لدافع الضرائب الأميركي فإن الحل الأمثل لهذا التناقض يتمثل بوضوح في توقف صدور هذه الصحف التي ينذر استمرار صدورها بهذه الرؤية الملتبسة بتأجيج العداوة للأميركيين سواء من الإسلاميين الذين امتلأت بهم المعتقلات أو المثقفين الذين صدموا من التناقضات الأميركية التي أصبحت في النهاية تناقضات خطرة على الحياة البيولوجية (وليس الحياة السياسية فحسب) لأنها قاتلة لإخوانهم في الوطن مع محاولة مكشوفة للتنصل من القتل الصريح بما يؤدي تلقائيا إلى قتل أكثر صراحة، وذلك كنتيجة حتمية لا مفر منها للتعامي والتصامم عن جرائم شهدها العالم كله على الهواء وسعد الأميركيون بها لأن ضحاياها مسلمون.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
لقراءة المقال على موقع الجزيرة.نت اضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا