بقلم : ماهر حسن
تاريخ النشر : 04/08/2006
جريدة : المصري اليوم
يأتي صدور كتاب "عبد اللطيف البغدادي….شهيد النزاهة الثورية" للدكتور محمد الجوادي متزامنا مع مناخ الاحتفال بثورة يوليو غير أنه يختلف كلية عن الطقوس الاحتفالية المتعارف عليها وربما المتفق عليها….فهو يقدم قراءة مغايرة وكاشفة عن جوانب مجهولة ومهمة ووقائع مثيرة لثورة يوليو….بشجاعة يتعين على الكثير من المؤرخين مراجعتها وإبداء الرأي فيها
كان عبد اللطيف البغدادي متميزا عن كل زملائه من رجال الثورة، بالقدرة الفذة على الإنجاز وكان الوحيد بينهم الذي جمع بين القدرة على الحلم والتصور، والقدرة على وضع الخطط الكفيلة بتنفيذ هذا الحلم، ولقد تقلد البغدادي خمس وزارات مختلفة في عهد الرئيس عبد الناصر، وكان يتميز بالاعتداد الكبير بالنفس والكرامة وهي التي أدت به لاعتزال العمل السياسي في عهد ناصر، هذه كانت كلمات وصف بها الدكتور محمد الجوادي واحداً من الضباط الأحرار في تقديمه لكتابه «عبد اللطيف البغدادي.. شهيد النزاهة الثورية» الصادر مؤخرا عن دار الخيال وإعجاب محمد الجوادي بعبد اللطيف البغدادي لم يقف عند حدود هذا الوصف،
وإنما قطع الجوادي بأن العلاقة ساءت بين البغدادي وعبد الناصر بعد اعتزاله العمل السياسي لدرجة أن البغدادي تعرض لكثير من المضايقات إثر ابتعاده عن السلطة عام ١٩٦٤، ومن ثم فإن الجوادي يصف كتابه هذا بأنه تقليب في أوراق وفصول ثورة يوليو المجهولة، يقع كتاب الجوادي في عشرة أبواب، جميعها فصل واحد باستثناء الباب الثالث ويقع في ثلاثة فصول والسابع ويقع في أربعة فصول والثامن ويقع في ثلاثة فصول.
وفي إشارات سريعة ساق الجوادي جملة من النقاط والصفات التي تميز بها البغدادي والتي يعد جميعها مبررا للحديث عنه الآن كان من بينها أنه عاش في السلطة كما عاش بعيدا عنها كما أنه ابتعد عنها بإرادته ولم يقبل بوجوده في هامش سياسي مثل غيره ممن عادوا بعد الاعتزال، وأنه نشر مذكراته أربع مرات الأولى عام ١٩٧٧، والثانية قد جمعته في كتاب مع كمال الدين حسين وحسن إبراهيم في حوار طويل أجراه معهم سامي جوهر وأصدره في كتاب، والمرة الثالثة في مجلة أكتوبر ونشرها على حلقات من يوليو ١٩٩٣ إلي فبراير ١٩٩٤ وفي مجلة أكتوبر ذاتها كانت مذكراته في شكل حوار مطول أجراه معه رئيس تحرير المجلة آنذاك الأستاذ صلاح منتصر ونشر على حلقات بدءاً من يوليو ١٩٨٨.
ووفق هذا فيمكن اعتبار المواد الأربع المشار إليها مصادر معرفية موثوقاً في صحتها والتي من شأنها إضاءة مناطق معتمة في كواليس السياسة المصرية في عهد الثورة، بل ومصادر جيدة لرسم صورة واضحة المعالم من الداخل والخارج للبغدادي الذي يرى الجوادي أن رؤاه كانت أكثر صلابة وتماسكا كما أنه تميز بالقدرة على الحلم ووضع الخطط الكفيلة بتحقيق هذا الحلم، فضلا عما تمتع به من مكانة متميزة في وجدان المصريين حتى أن إنجازاته قد تعرضت للتضخيم الفولكلوري، كان يقال مثلا: إنه إذا مر على طريق ترابي في الصباح وأمر برصفه فإنه يرصف فى صباح نفس اليوم ليمر عليه مرصوفا في المساء.
البغدادي أيضا كان صاحب أطول فترة في موقع الرجل الثاني في عهد عبد الناصر، "علي عكس ما هو شائع "
ومنذ اللحظات الأولي للثورة التي أخذت فيها بمبدأ الأقدمية، وكانت الأمور تسير في صالح البغدادي وقيامه بدور بارز وكان ترتيبه في كشف الجيش يعطيه دورا متقدما جدا….إذ كان الثاني مباشرة بعد جمال سالم ولكن لا عبد الناصر ولا البغدادي استطاعا أن يقودا التفاعل بين رأييهما لمصلحتيهما أو لمصلحة مصر، وبعد ١٩٥٦ أصبح من المعروف أو المتفق عليه أن البغدادي هو الرجل الثاني في الدولة بعد عبد الناصر خاصة بعد خروج جمال سالم من السلطة في إثر أخيه صلاح سالم.
ورغم أنه كان يتمتع بقدرات عقلية متفوقة إلا أن قدراته النفسية كانت أقل، فلم يستطع أو يحاول التكيف مع البشر أو الصبر عليهم.
ويقول الجوادي: ليس من شك في أن البغدادي لم يكن به ميل للزعامة….وكان ميالا للغضب إذا ما تجاوزت الأمور حداً لا تطيقه نفسه فكان صاحب الاستقالة المبكرة في عام ١٩٥٤ والمدهش أنه طيلة عمله السياسي تقدم بنحو ثماني استقالات على مدى عشرة أعوام «١٩٥٤-١٩٦٤» كما أنه المسئول عن العلاقة الملتبسة والسيئة بين عبد الناصر وعبد الحكيم عامر.
ويشير الجوادي إلى أن عبد اللطيف البغدادي لم يتناول حياته الأولي في مذكراته المنشورة في الكتاب الصادر في «١٩٧٧م» إنما بدأها من عام ١٩٤٠، بالحديث عن مقدمات حادث ٤ فبراير ١٩٤٢، وانطباعاته عنه، وكان البغدادي قد استدرك هذا الأمر عند نشر ما يمكن تسميته مذكراته الأخيرة في نصف الدنيا عام ١٩٩٦م عبر عشرين حديثا وفيها يحكي عن انتقاله للمنصورة لتلقي تعليمه الابتدائي، كما تحدث عن المستوي الاجتماعي والاقتصادي لأسرته وعن رغبة والده العمدة في إلحاقه بكلية البوليس، وكان البغدادي قد ولد في ٢٠ سبتمبر عام ١٩١٧ في قرية شاوه علي بعد أربعة كيلو مترات من المنصورة والتي حصل فيها على الثانوية أيضا وقدم أوراقه للكلية الحربية بعدما أمضى أسبوعا في كلية البوليس،
ويذكر أنه في المقابلة الشخصية بالكلية الحربية سأله أعضاء اللجنة لماذا اختار الحربية فإذا به يدهشهم بصراحته، مشيراً لهم لأنني أريد أن أكون مثلكم أضمن وظيفة بعد التخرج….فإذا به يفاجأ بقبوله الذي لم يكن يتوقعه، وتحدث عن أيام إقامته في شقة مفروشة في مصر الجديدة مع أصدقائه حسن سعودي ووجيه أباظة وحسن عزت وعن بزوغ الرغبة الأولى في عمل تنظيم سري بين ضباط الجيش لمقاومة الاحتلال كان ذلك في بداية ١٩٤٠م، وأنهم بالفعل بدءوا تنفيذ الفكرة في شكل خلايا، ولأن عزت كان صديقاً للسادات فقد اقترح ضمه لهذه الخلايا.
وقال الجوادي إن المذكرات السياسية للبغدادي هي أقرب للنموذج الأوروبي وكأنه لم يشأ إفشاء كل ما تحتويه اليوميات من أسرار وأن البغدادي قال إنه أحس بضرورة كتابة مذكراته في نهاية عام ١٩٥٣ مع بداية نشوب النزاع بين عبد الناصر ومحمد نجيب.
وهي صراعات سارت عدواها ما بين الضباط وكادت تؤثر على مسيرة الثورة، وفيما يتعلق بالأهمية التاريخية لمذكرات البغدادي فهي تمثل قيمة كبيرة إذ تحفل بتفصيلات كثيرة يحتاجها المؤرخون فهي الأكثر تعرضاً لكثير من فترات الصراع في العهد الأول للثورة ففيها تفاصيل أزمة مارس وفيها أيضاً تفصيلات مذهلة عن حقيقة مواقف أعضاء القيادة المصرية في حرب ١٩٥٦، فهي تنطوي ليس فقط على الكشف عن الحوارات بل عما وراء المشاعر وعن الحيرة والتردد اللذين انتابا القيادة حول منهج تنظيم المجتمع بعد الانفصال (٦١/١٩٦٢م)، وعن إعلان دستور جديد في مارس ١٩٦٤م وقيام مجلس أمة جديد فضلاً عن الشجاعة والوضوح والصراحة التي تناول بها البغدادي في رصده لهزيمة ١٩٦٧م
وقد اعتبر هذه الهزيمة بمثابة النهاية الدرامية لهذه المذكرات…فقد ذكر فيها الدواعي والتفاصيل وراء واقعة انتحار عبد الحكيم عامر، كما وصف المشهد المأساوي حينما ذهب لتقديم العزاء لأسرة عامر وقوبل بالبكاء هو وكمال الدين حسين حتى أنهما بكيا تأثراً.
ومن الملامح الطريفة في سيرة البغدادي أنه ذكر صراحة أنه تم قبوله في كلية البوليس، التي تركها فيما بعد، بواسطة من أم كلثوم التي كانت قريتها على مقربة من قريته وكانت تربط عائلته وعائلتها علاقة أسرية، مما جعله في الترتيب الثاني من حيث قيمة الواسطة.
أيضاً الرئيس مبارك كان له نصيب في التداعيات التاريخية للبغدادي، ففي معرض حديثه عن نكسة ١٩٦٧ يقول : وفي مرة طلب قائد الطيران محمد صدقي عبد الحكيم عامر وأخبره أن طائرات العدو أغارت على مطار الأقصر وضربت طائرتنا هناك، وهي الطائرات التي انتقلت إلى هناك بعد بدء الضرب صباح ذلك اليوم، وكانت في مطار بني سويف وقيل إن أحد الطيارين القدامى واسمه حسني مبارك قد شاهد الطائرات المغيرة وهي من النوع الأمريكي، وأنه يؤكد هذا الأمر، فطلب عبد الحكيم عامر الرئيس عبد الناصر تليفونياً وأخبره أن عدد الطائرات المغيرة أكثر مما يملكه العدو، وأن هناك طائرات أغارت على مطار الأقصر وقد تعرف عليها طيار قديم له خبرته اسمه حسني مبارك، وطلب من عبد الناصر أن يبحث عن حل سياسي ولكن عبد الناصر لم يتسرع ولم يأخذ برأي عامر وطالبه بإثبات أن الطائرات أمريكية، وأن يحاول مثلاً إسقاط واحدة منها ليراها، فاتصل عامر بمطار الأقصر وتحدث مع الطيار حسني مبارك وسأله عن نوع الطائرات التي أغارت، هل هي أمريكية أم إسرائيلية؟ فأجابه بأنها إسرائيلية.
البغدادي أيضاً وصف واقعة تنحي عبد الناصر بأنها كانت مهزلة كبرى وموقف مجلس الأمة وقتها من هذا التنحي حينما كان السادات رئيسا له، فبدلاً من أن يناقش البرلمان أسباب الهزيمة وتدمير الجيش المصري في ستة وثلاثين ساعة وبدلاً من مساءلة المتسببين في الكارثة تهدج صوت السادات وهو يقرأ نص رسالة ناصر، وأخذ يجاهد نفسه ليكملها، وقام رئيس الوزراء محمد صدقي سليمان وحمد الله، وشكر باسم الحكومة جمال عبد الناصر لاستجابته لرغبة الشعب في بقائه في منصبه.
كل هذا كان مجرد شذرات من سيرة عبد اللطيف البغدادي التي تحفل بالمزيد غير أن المساحة لا يمكن أن تغطيها جميعاً فهذه مجرد إشارات ومداخل..
أما منهج الجوادي في هذه السيرة فإننا نعتبر ما قدمه أشبه بالجهد التجميعي لهذه السيرة الموزعة بين أكثر من مطبوعة وعلى أزمنة متفاوتة.
وهو تجميع منهجي متواتر السرد والزمن، وأضاف عليه الجوادي رؤية تحليلية لم تخل في بعض المواضع من تعاطف سياسي وإنساني….وبخبرته في مجال دراسة السيرة الذاتية استطاع الجوادي أن يتوقف نقدياً عند تحليله لمنهج وطرائق تسجيل البغدادي لسيرته فضلاً عما أسبغه علي هذه السيرة من ملامح شخصية وروحية ومعرفية على الشخصية.