بقلم : فاروق شوشة
أمثال أحمد مستجير لا يغيبون عن الذاكرة ولا ينتهي أبدا فيض الحديث عنهم مضمخا بعطر سيرتهم وإنجازهم ،وأثرهم في تلاميذهم ومريديهم ، وفي كل من أتيح له حظ صحبتهم ومجاورتهم .
واحمد مستجير العالم والمفكر والأديب والمترجم والشاعر والمجمعي هو الذي يقول عنه الدكتور محمد الجوادي في كتابه "عاشق العلم أحمد مستجير" : لقد عاش حياته نموذجا لرجل فذ اجتمعت فيه خصال رفيعة قلما تجتمع لعبقري، اجتمعت فيه صفات العطاء المتدفق الذي لا يعرف حدودا ولا قيودا ، والذكاء الوهاج الذي لا يعرف مشكلة ولا معضلة ،وصفاء النفس الذي لا يعرف عقدا ولا حقدا ، والعمل الجاد الذي لا يركن إلى الراحة إلا ليجدد النشاط.
ويتوقف الدكتور الجوادي عند ملامح في سيرة أحمد مستجير منذ ميلاده عام1934 وتخرجه من كلية الزراعة جامعة القاهرة عام1954، وسبب اختياره وشغفه بكليته التي يقول عنها " إن الزراعة هي الحياة،وهي الحضارة، والفلاح المصري هو صانع الحضارة" ، "هذه الكلية هي بيتي الكبير، هي حبي الخالد،هي شبابي وعمري،في حقولها وحدائقها تفتحت الحياة في قلبي، في معاملها خبرت الحياة،تحت أشجارها كم كتبت،على الكراسي في حدائقها كم بكيت وحيدا، وعلى طرقاتها كم ضحكت وضحكت،هي مملكتي وحبي" ، عارضا لنا – نحن قراء كتابه المفعم بالدراسة والمحبة معا – خطوات أحمد مستجير بعد تخرجه مهندسا زراعيا ،فباحثا بالمركز القومي للبحوث حيث نال درجة الماجستير في علم تربية الدواجن،ثم سفره إلى بريطانيا في إجازة دراسية ،وحصوله على درجة الدبلوم في علوم وراثة الحيوان،ثم درجة الدكتوراة في علم وراثة العشائر،وبعدها عاد إلى الوطن ليبدأ رحلة كفاحه العلمي والفكري، ومواكبة التقدم العلمي المذهل في علوم التكنولوجيا الحيوية والهندسة الوراثية،مواصلا بحوثه العلمية مدرسا فأستاذا في كلية الزراعة، وعميدا للكلية ثلاث مرات بالانتخاب، وعضوا في مجمع اللغة العربية، وفي لجان المجلس الأعلى للثقافة ،وفي العديد من الهيئات العلمية.
ثم لا يفوت الدكتور محمد الجوادي – مؤلف الكتاب- أن يشير إلى قائمة حافلة بأوليات الدكتور أحمد مستجير ، في سجل إنجازه الضخم ،فهو أول من قام بتهجين الأبقار البلدية بأنواع أجنبية مستخدما تكنولوجيا التلقيح الصناعي، مما أدى إلى زيادة إنتاج اللبن واللحم، وأول من نادى بإمكان استخدام الاستنساخ في زيادة إنتاج الألبان ، وأول من نبه إلى أهمية استخدام التكنولوجيا الحديثة في مجال الوراثة لتحسين الإنتاج الزراعي والحيواني والنباتي ، وأول من أنشأ مركزا للهندسة الوراثية وآخر لبيوتكنولوجيا النبات بكلية الزراعة جامعة القاهرة، وأول من استخدم تكنولوجيا التهجين الخضري لخلايا النبات بديلا عن الهندسة الوراثية ، وهو صاحب فكرة المشروع القومي لاستنباط أصناف جديدة من محاصيل القمح والأرز والذرة التي تصلح للزراعة في أرض مالحة وتروى بمياه مالحة، عن طريق التهجين الخضري مع الغاب.
وقد نفذ التجارب الأولى لهذا المشروع في جامعة القاهرة بتمويل من وزارة الزراعة….ثم يضيف الدكتور الجوادي "وكان قبل وفاته قد بدأ التفكير في استنباط التقاوي الاصطناعية للذرة، وزيادة نسبة الزيت في بذور القطن ، وفي إثراء الفول البلدي بحامض الميثونين ألأميني لترتفع قيمته الغذائية وتقترب من اللحم ، كما كان قد شرع في دراسة فكرة إدخال الجين المقاوم لفيروس الالتهاب الكبدي إلى ثمار الموز".
لقد نجح مستجير في توظيف أفكار التكنولوجيا الحيوية في مجال الزراعة،مؤمنا بحق الجماهير في الغذاء والتنمية في إطار من الفلسفة الأخلاقية التي حكمت رؤاه فيما يتعلق بالتطبيقات العلمية لسياسات الاستنساخ والتكنولوجيا الحيوية والهندسة الوراثية .
وهكذا – كما يقول الدكتور الجوادي –يمكن تلخيص المشروع العلمي لأحمد مستجير في مصطلح واحد هو "زراعة الفقراء " ومحاولة الإفادة من المياه المالحة في الري ،ومقاومة الملوحة والجفاف.
ولقد ألف الدكتور مستجير وترجم عشرات الكتب التي أصبحت مراجع علمية في مجال تخصصه الأصلي ،وفي مجال تاريخ العلم وفلسفته وعلاقته بالمجتمع وفي مجال البيئة وفي ميادين علوم الوراثة وفي الثقافة العلمية،بالإضافة إلى إبداعه الشعري الذي تمثل في ديوانين هما " عزف ناي قديم" و "هل ترجع أسراب البط؟ " وكتاب في دراسة عروض الشعر العربي هو "مدخل رياضي إلى عروض الشعر العربي".
قسم الدكتور محمد الجوادي –المؤرخ والمفكر والطبيب وعضو مجمع اللغة العربية- كتابه البديع عن أحمد مستجير إلى اثنى عشر فصلا، كل منها يتناول جانبا من جوانب هذه الشخصية العلمية والإنسانية الفذة،مبحرا في معالم سيرته وتكوينه الفكري وشخصيته، ورؤيته لما بعد الاستنساخ ، والجينوم البشري،وإبداعه الشعري ، ودراسته لعروض الشعر العربي….الأمر الذي جعل من كتابه وثيقة حية مكتملة الملامح والتفاصيل متوهجة بصورة أحمد مستجير ، الرمز،والقيمة، والمثال الرفيع لصاحب الرسالة التي حملها طيلة حياته ، ذلك أن أمثال أحمد مستجير لا يغيبون أبدا عن الذاكرة " ذاكرة العلم وذاكرة الوطن".
تاريخ النشر : 26/04/2009
جريدة : الأهرام