رؤية نقدية ” شاهدة ربع قرن “

جريدة : الأهرام

تاريخ النشر : 15/05/1996

 

منذ شهر أخرجت السيدة عايدة الشريف كتابا قيما  بعنوان “شاهدة  ربع قرن” تناولت فيه شطرا كبيرا من حياتها بالتسجيل وقد نجحت هذه المؤلفة القديرة أن تتناول حياتها العقلية دون كل أنواع الحيوات الأخرى التي يقضيها الإنسان في هذه الدنيا ، وقد لجأت إلى تكتيك متميز بأن أدارت هذه الحياة  حول محاور أساتذتها الذين تلقت عليهم الفكر الرفيع بطريقة التلقي المباشر وهكذا جاءت كتابتها في كل فصل من فصول هذا الكتاب بمثابة مزيج مدهش في نسيجه ، فالحب والتقدير والامتنان والإعجاب بشخوص هذا الكتاب لا يقف عند تقديم دورهم في حياتهم وفي حياة الآخرين ولكنه يمتد على قلم هذه المؤلفة ليتيح لنا نحن القراء صورة من أروع صور التعلم  الذاتي الذي أصبح نادرا في هذا الزمان ، ولكن كتاب عايدة الشريف يأخذ بأيدينا  خطوة خطوة وفي نعومة شديدة  إلى مناطق الصراع والحق والجمال في كل الأعمال الأدبية والفكرية التي تتداولها أيادينا بدون أن نجد في أنفسنا القدرة على الوصول بأفهامنا إلى تلك الأحكام الصائبة والدقيقة التي تجعلنا نصل إليها بعد هذا الحوار الجميل الممتع الذي تحدث به نفسها أمامنا على هذا الورق ، أو بعد هذا الحوار الثري الذي كانت عايدة الشريف قد أتمته مع نفسها وهي ترتقي مدارج الفكر والنقد والأدب الرفيع برعاية أساتذتها الكبار محمد مندور المعلم الأب ومحمود شاكر ( شيخ العربية ) ويحي حقي ( العاشق لعروبة مصر ) ومحمد عودة ( الذي تنبأ بالنهوض من كبوة النكسة) وعبد الرحمن صدقي ( شاعر الحياة الأول) وأخيرا وليس أخرا (نجيب محفوظ ) الذي قضت في صحبته الوظيفية فترات مثمرة وممتدة من حياتها في مجال الفكر والثقافة.

قرأت هذا الكتاب على مدى شهر متصل فكنت أتهيأ للإقبال  على صفحاته بكثير من غسيل المخ من الأفكار السابقة عن هؤلاء المعاصرين الذين اختصتهم عايدة الشريف بهذه الفصول التي جعلها هذا الكتاب متصلة ومتواصلة ، وكنت أشعر بلذة عجيبة وأنا أقرأ هذا الكتاب كتلك اللذة التي كنت أشعر بها عند مشاهدة الفيلم العالمي الجميل “صوت الموسيقى” حين كانت الدراما تفتعل وتبلغ الذروة لحظة بعد لحظة بينما الفيلم يواصل التعليم فإذا بالمشاهد يكاد يحار(مع أنه يعرف الحقيقة) هل تطغى الدراما على التعليم ؟ أم أنه كان هدفا لهذه الدراما الجميلة التي عبرت باقتدار عن عواطف مشبوبة بشيء كثير من الإتقان والاستبطان والتنفيس في ذات الوقت.

على هذا النمو  كنت أقرأ كتاب السيدة عايدة الشريف وأنا أحسد نفسي على هذه المتعة  المفاجئة التي أتيح لها أن  تتسلل إلى هذه  النفس المثقلة بمتاعب الحياة وصعوباتها ، وإذا بهذا الكتاب في نظري يأتي كمنحة من منح الحياة التي تعيننا على تقبل الحياة نفسها بكل ما فيها من صعوبات ومتاعب وهذه عايدة الشريف  تحدثنا في فصول  أخرى من هذا الكتاب عن أمل دنقل وصلاح عبد الصبور وناجي العلى فتضيف إلى حديثها الأول عن أساتذتها حديثا آخر  يفيض بالمشاعر النبيلة  تجاه أولئك  الذين جسدوا هذه المشاعر في ضمير أمتنا المعاصر.

وليس من سبيل إلى تلخيص هذا الكتاب وعرض أفكاره ، ولكنني أزعم أن كل دراسة لأدبنا العربي المعاصر لا بد أن تمر بقراءة هذا الكتاب ، ربما يكون من الصعب على  الدارسين أن يأخذوا منه فقرات ينقلونها ضمن دراساتهم ،ولكن الأصعب من هذا أن تصدر  دراساتهم في هذا الأدب من دون أن تستفيد من هذا الضوء القوى الذي بددت به عايدة الشريف كثيرا من مناطق الغموض في أدبنا  العربي المعاصر ، كأني أريد أن أقول إن هذا الكتاب  قد لا يمثل مرجعا أمام الدراسات  الأدبية المعاصرة ، ولكنه عندما يعرف الأكاديميون طريقه سيمثل مصباحا هاديا وأساسيا لفهم كثير من مجريات الأمور في حياتنا الفكرية المتواصلة ، وسوف يجد القارئ نفسه معجبا أشد.

الإعجاب بهذه الآراء الجريئة التي أقدمت عليها عايدة الشريف في كثير من فقرات هذا الكتاب الجميل الثري بالحكمة والتجربة والخبرة والفهم العميق والتعبير الدقيق، أما الذين أتيح لهم أن يتعرفوا على الشخصية الآسرة لمؤلفة هذا الكتاب ولو لمرة واحدة فسوف تتضاعف سعادته بهذا الكتاب  كما كان الحظ قد أتاح لي الفرصة لمشاهدة صوت الموسيقى في أحد القصور التي تم تصوير الفيلم فيها.

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com