تاريخ النشر: ٣٠١٣/٤/١٣
المصدر : الأهرام العربي
تعانى الساحة السياسية المصرية، منذ أن انقسم فرقاء الميدان بسبب الإعلان الدستورى فى 30 مارس 2011، الكثير من الحيرة واللبس، فظهر مثلا شعار الانتخابات أولاً أو الدستور أولاً، وبرغم أن الاستفتاء حسم هذا الانقسام، إلا أن فيروس الخلاف المر الذى ضرب مصر طولا وعرضا، استمر حتى وقتنا هذا فى أشكال جديدة تارة، وتحت دعاوى مختلفة تارة أخرى، لكنها فى مجملها لا تضع رأى الشعب ولا رأى الأغلبية فى الحسبان، وتنحو منحى الحرية لا الديمقراطية، ويأتى هذا الحوار مع الدكتور محمد الجوادي لكى يجلى بصراحة هذه الحيرة واللبس بناء على رؤيته للأمور.. وإلى نص الحوار:
– فى البداية قلت له: ما تقييمك لمبادرة حزب النور التى طرحت أخيرا لإنهاء حالة التناحر السياسى فى البلاد؟
من حق كل الأحزاب طرح مبادرات سياسية، بل ومن واجبها أيضًا لكن المعيار أن تكون هذه المبادرات مدروسة والمبادرات نوعان، مبادرة تكون مغامرة فى المجهول، ومبادرة لكسر القيود والجمود مع التأكد من وجود شيء فى المقابل، تمامًا كما فعل السادات عندما زار إسرائيل، فقد كان يعلم أن أمريكا ستساند مبادرته وتحل المشكلة، ومبادرة حزب النور من النوع الثانى ويبدو أنها مبادرة مدروسة جيدًا.
– وبالنسبة لمطلب إقالة الحكومة؟
إقالة الحكومة مطلب يمكن تنفيذه، وهذا الرأى ليس رأيى الشخصى لكنه رأى علمى، وتأتى مكانها حكومة إنقاذ وطنى حقيقية مصغرة تتكون من 12 أو 13 وزيرًا بشرط أن تكون متجانسة وتجتمع بصفة يومية من 8 إلى 9 صباحًا ثم ينصرفون إلى أعمالهم، أى أنها وزارة أزمة، ويكون فيها وزراء على صلة شخصية برئيس الدولة، وفيها وزير أو أكثر على صلة بالقوى السياسية المعارضة وهذا لا ينفى أن تكون وزارة تكنوقراط فهناك الكثير من التكنوقراط السياسيين ويمكن أن يرأس الاجتماع اليومى أى وزير فيها.
– وماذا عن النائب العام؟
لا أحد فى العالم يقبل بهذا الطرح أو هذا المبدأ، لأنه اختصاص أصيل لرئيس الدولة فى العالم أجمع، فحتى المشير طنطاوى لم يستطع ذلك ولم يحاوله، وكان يقول إنه ليس رئيس دولة، بل هو رئيس مجلس عسكرى يدير الدولة، ولهذا لم يغير النائب العام ولم يعين أعضاء بالشورى ولا الجهاز المركزى للمحاسبات ولا البنك المركزى، وقد حدث ذلك الطلب من قبل ورفضه المستشار وجدى محمد عبدالصمد وقبل القضاة، عندما صدر قانون السلطة القضائية الحالى تأجلت فكرة اختيار النائب العام من مجلس القضاء الأعلى لأنه لو أقيل النائب العام فلن يقبل بالمنصب أحد بعد ذلك، لأن عليه ضغوطًا لا يتحملها أحد.
– ثار جدل غير مفهوم حول جبهة الضمير. فما الحقيقة فى ذلك؟
جبهة الضمير فكرة قديمة مؤداها أن يجتمع بعض المستقلين فى الرأى على تأييد الشرعية، ومن اختاره الشعب بشرط ألا يحسبوا على النظام الحاكم أو المعارضة، فقرروا إنشاء الجبهة حتى لا يحسبوا على الإخوان فى آرائهم أو النظام الحاكم، وإذا ما عارضوا الإخوان فى أمر من الأمور لا يخرج أحد من الإخوان بعد ذلك، ويقول إن العضو الفلانى ليس عضوًا فى الجماعة، لأن الجماعة لا تعطى عضويتها لمن يطلبها ومن خرج من جبهة الضمير سامح فوزى وسبب خروجه أنه لم يعلم بموعد الإعلان عن الجبهة فى وسائل الإعلام فى اللحظة المناسبة، فضلا عن كمال أبوالمجد وإبراهيم المعلم.
أينشتاين وجبهة الإنقاذ
– هناك قول مأثور لأينشتاين “لا يمكننا حل مشاكلنا بنفس التفكير الذى اعتمدناه عندما خلقنا تلك المشاكل؟ ما صحة هذا القول؟
أنا أعتقد أن هذا القول يلخص موقف جبهة الإنقاذ الآن، فالجبهة كمن رأى حلمًا فى منامه ويريد أن ينام ليرى نفس الحلم مرة أخرى، ويريدون تكرار السيناريو كما حدث منذ سنتين.
– لماذا لم يكن للنخب أو بعضها دور محورى فى صناعة الثورة هل لأن سجلها وأداءها لا يبعثان على التفاؤل؟ أم ماذا؟
فى مصر حدثت نكسة كبرى للنخبة فى سنة 1990، فبعد أن كانت النخبة المصرية وصلت إلى مرحلة متقدمة جدًا من صياغة معارضة وطنية متحدة، ذلك أنه فى برلمان 84 نجح فؤاد سراج الدين فى أن يشرك الإسلاميين والإخوان المسلمون فى الانتخابات البرلمانية وأدخلهم على قوائم الوفد، وتبعه فى ذلك إبراهيم شكرى سنة 87، عندما قاد هو ومصطفى كامل مراد حزبيهما العمل الاشتراكى والأحرار الاشتراكيين للتحالف مع التيار الإسلامى، من ثم أصبحت هناك 4 تيارات رئيسية حتى لو كان بعضها صغيرًا جدًا مثل الأحرار الاشتراكيين، لكن أصبحت هناك 4 قوى معارضة لها وجود، واتفقت فيما بينها على أن تقاطع انتخابات 90 وتبعها اليسار ممثلاً فى حزب التجمع، تنبيهًا أو تذكيرًا لمبارك بحقيقة الموقف فى مصر، لكن رفعت السعيد خانهم جميعًا وفضل أن يسير وراء مبارك وديكتاتوريته بدلاً من أن يسير وراء فؤاد سراج الدين وإبراهيم شكرى وتاريخهما الطويل، وكانت هذه الخيانة اليسارية نموذجًا للنخبة المصرية التى تجرى وراء الانتفاع والاستنفاع، وكذلك المثقفون الذين عملوا مع فاروق حسنى وصارت كل هذه النخبة موظفة ومهيئة ومهندسة للدخول فى الحظيرة.
مماليك جمال مبارك وأحمد عز
– هل هذا يفسر تعدد أطراف المشهد الثورى وضعف روح التوافق والتجرد والوحدة الوطنية وأصبحت الثورة مكانًا للفرقة والمناظرات الأيديولوجية والمناكفات والمزايدات الحزبية؟
كان من حظى أن أكون من أول المعلقين على تنحى مبارك فى إحدى الفضائيات، فلما انتهيت من تعليقى، التقيت بثلاثة من رموز النخبة، لكنهم تحركوا من بيوتهم قبل التنحى، لكنى وجدت الثلاثة ينطلقون من منظور مختلف لما حدث، فأحد هؤلاء كان ينظر إلى ما حدث على أنه نهاية لعصر السادات، وأنه لا بد لعصر عبدالناصر أن يعود، وكان آخر يريد أن يقول إن هذا نهاية عهد مبارك، وخيانة مبارك ولا بد لعصر السادات أن يعود وكان الثالث يقول إن التنحى نهاية لعصر الجمهورية العسكرية، ولا بد للملك فاروق والنحاس أن يعودا، ولم يكن من الصعب على أن أضحك على هذه الفسيفساء الكبيرة، لكنها غير التى تستخدم فى الفن للتجميل، وتثرى الحياة السياسية بالتنوع، لكنها كانت متنافرة فيما بينها إلى حد يصعب وصفه، ولا يريدون البحث عن مشترك، فخرجت مرتعدًا على مستقبل مصر فى مقبل الأيام، وهذا ما لمسته فيما يسمى بالوفاق الوطنى والحوار الوطنى، وحاولت جهدى أن أجمع بين الفرقاء لكن دون جدوى، لهذا كان من الصعب على من تربى فى أحضان المماليك أن يبنى حكمًا مع الملوك.
– ذلك يعنى أننا أمام أمراض خطيرة فى النخبة المصرية فهل تتمثل هذه الأمراض فى غياب الكفاءة أم النزاهة أم الاثنين معًا؟
نعم فما زلت أعتقد أن التشخيص الخاطئ أصعب من العلاج، ونحن كأساتذة فى الطب نركز على التشخيص الدقيق ودرجته قبل العلاج، وأعتقد أن النزاهة هى المطلوبة فى اللحظة الراهنة لكى نستطيع بناء هذا الوطن الذى أُثقل كاهله على مر العصور خصوصا تلك الفترة الماضية.
– هل هذه الأمراض والتراث المملوكى القديم هما السبب فى فشل النخبة فى إحداث تغيير منذ عقود ومع ذلك تصر على تصدر المشهد؟
نعم لأن فقد شروط التجرد والنزاهة والإغراق فى الشخصنة هو ما جعل هذه النخب لا تنجح فى إحداث التغيير المأمول، ونحن فى لحظات فارقة ننعم فيها بحرية كبيرة لم تحدث فى تاريخ الأمة المصرية، وهذه الأمراض المملوكية من غياب النزاهة والنفعية والحرص فى الوصول إلى السلطة بغير الديمقراطية وآلياتها هو ما أدى إلى فشل أسرة محمد على فى الاستمرار، عندما حرص الخديو إسماعيل على أن يجعل الملك لأكبر أبنائه الخديوى توفيق الذى كان يقول عنه لخلصائه إن “نفس توفيق نفس عبد” وهو ما حاول مماليك جمال مبارك أن يفعلوه عندما عجلوا بالثورة، لأنهم كانوا يريدون أن يفعلوها هم لمصلحة جمال ليتولى الحكم فى حياة والده، أخشى أن ما يحدث من جبهة الإنقاذ الآن يمهد لبديل مملوكى آخر قد يستغل كل ما تفعله جبهة الإنقاذ للقضاء عليها فى مذبحة مملوكية قد تكون فى القلعة أيضًا.
– استطاع شباب الثورة كسر حاجز الخوف وتوظيف أدوات العصر لاختراق القبضة الأمنية والتعتيم الإعلامى وتجريد النظام من وسائل التحكم والبطش والتشويه، ومع ذلك أعتقد أننا فى الوقت الحالى فى مشهد مشوه ملئ بالمغالطات؟ فما رأيك؟
أعتقد أنا 90% مما يقال فى الإعلام مغالطات لكن الإعلام مسموح له أن يغالط إذا كانت هناك تربية سياسية، مثلما يحدث فى الدول التى ترسخت فيها الديمقراطية، لكن هذه الفترة لا ينفع فيها إلا أن نحترم الديمقراطية الوليدة، وأن نسعى لتعضيدها وترسيخها بما يؤدى إلى تداول السلطة كل أربع سنوات، لا أن نغالط ونقول إن الديمقراطية ليست صندوق الانتخابات وحده.
– لكن هذه المغالطات تخرج فى ظل حرية بلا سقف فما العمل؟
هذه هى النقطة التى أريد أن أركز عليها فى هذا الحوار، فهناك فرق بين الحرية والديمقراطية، فأقول إننا نجحنا فى الحصول على الحرية كاملة بعد الثورة، لكن لم ننجح حتى الآن فى مخاض الديمقراطية، ذلك لأن الحرية بكل أشكالها تعنى مرحلة من المراحل، أما الديمقراطية فتعنى تقييد الحرية، أى أن تتنازل عن رأيك لمصلحة رأى الأغلبية، أى أن تلتزم برأى الأغلبية حتى لو اعتقدت أنه خاطئ، أو أنه ضد مصلحتك فالديمقراطية سنة ثانية من الحرية، وهى أصعب بكثير والدليل على ذلك أن الحرية لا تشتم بعكس الديمقراطية فيقال إن الديمقراطية هى ديمقراطية الجهلة والغوغاء والذين لا يفهمون، وهو الفخ الذى وقع فيه البرادعى وعلاء الأسوانى وحمدين صباحى وآخرون فهم لم يدركوا أو غالطوا فى معنى الديمقراطية التى معناها حكم الشعب بالشعب برأى الشعب.
– نحتاج إلى تغيير فى الأحزاب والدستور والصحف. إلخ، وذلك يتطلب تغييرا فى القوانين والسياسات وآليات الحكم وأجهزته وهذا لم يتحقق بسرعة أو لم نصبر عليه؟ فهل لأننا نحتاج إلى إعادة تشكيل للعقول والنفوس والسلوكيات وهذا يستلزم وقتًا فما الحل؟
كل ذلك نحتاج إليه، ونحتاج إلى الصبر لكن أيضًا يجب ألا نقوم بتفصيل كل شيء وهذا السبب هو الذى منعنى من المشاركة فى صياغة الدستور.
– هل نحتاج إلى التخلص من كل النخبة القديمة أم ندمج بينها وبين الشباب أم نسلم الأمر كله للشباب؟ وكيف يكون ذلك؟
أعتقد أن الأولى بكل شىء هم الشباب وليس لنا دور فى المرحلة الحالية إلا الحديث عن تجاربنا وخبراتنا، وأن أمر مصر كله يجب أن يسلم للشباب بمعنى التمكين فى الوزارات والهيئات والمؤسسات.
– من أين ستخرج النخبة الجديدة وكيف ستبنى وبأى فكر وكيف ستبنى بدائلها المختلفة عن تراث الحكم القديم الممتد؟
النخبة الجديدة خرجت بالفعل ولكن المشكلة الآن فى التمكين، وقد كنت أنادى فى الوفاق الوطنى أن يكون مجلس الشعب الجديد 50% منه من الشباب، ولا يكفى النزول بسن الترشح إلى 25 سنة، لكنه خطوة جيدة على كل حال.
– هل ترى فى المشهد محاولات لإعادة تشكيل النخبة القديمة وما ما ملامح هذا التشكل حيث كنا نرى توريثًا فى مواقع صناعة القرار السياسى أو الثقافى أو العلمى أو الإدارى ربما يؤدى إلى إعادة تشكيل النخبة القديمة وظهورها بمظهر جديد؟
برغم وجود ذلك وهو حقيقة فإن النخبة القديمة بنت نفسها على أنها مؤبدة وهو ما أدى إلى انهيارها، وقد صرحت النخبة القديمة بذلك، ولا أعتقد أن فرص النخبة القديمة فى إعادة التشكل ممكنة حتى لو كان البعض لا يصدق أن مبارك سجن وأن عمر سليمان مات.
– نخبة الإسلاميين الجديدة ما ملامحها؟ وكيف تصفها؟ هل قائمة على نظام أسسه أخلاقية فقط ولم يرتق خطابها إلى طرح بدائل عملية لدولة حديثة، إما أنها تحاول النهوض بالتركة الثقيلة، لكن ينقصها الوقت والكوادر، أم ليس لديها بديل لتثوير القانون الإدارى المنظم للتغيير فى دولة بيروقراطية عتيقة مثل مصر أما ماذا؟
النخبة الإسلامية نخبة واعدة حرمت من أماكنها الطبيعية، وبالتالى ظلمت كثيرًا وتحتاج إلى أن تعطى الفرصة كاملة وأن نصبر عليها وأن نساعدها ونقومها بالمزيد من الأفكار والأطروحات حتى تستعيد زمام المبادرة.
– هل هناك أوجه شبه بين النخب الإسلامية والليبرالية واليسارية الحالية فى الخطاب؟ وما أسباب ذلك؟
نعم هناك أوجه شبه بين النخب الإسلامية واليسارية لأن النخبة الإسلامية ظلمت كثيرًا فى عهد عبدالناصر وما بعد عبدالناصر، لكنه وجه شبه فى الطريقة وليس المنهج، وواجبنا جميعا وواجب النخبة المصرية المخلصة أن تدعمهم وتعززهم لصالح الوطن وليس لصالح أى شيء آخر حتى لو اتهمت بالإخوانية أو أنهم خلايا نائمة.
– هل كان على النخبة اليسارية أن تركز على الفئات الأشد فقرًا وليس على الطبقة المتوسطة التى لديها أجور يمكن أن تعيش بها؟ وبعدها يمكن بحسب النمو الاقتصادى المتاح تعديل حالة الفئات الأشد فقرًا من أسفل إلى أعلى وليس من أعلى إلى أسفل كما هو حادث الآن، وهل أدت هذه المزايدات السياسية إلى توجيه موارد الدولة القليلة لمن هم ليسوا الأقل فى الاحتياج للحصول على قواعد انتخابية، وهو ما اضطر المجلس العسكرى إلى فعله مما أربك من جاء بعده أملاً فى تثوير الفقراء على الإسلاميين؟
نعم هذا بالفعل جوهر ما يحدث، لكن يكفى أن نقول إن الإسلام “بكل تطبيقاته” كان يسارًا لما قبله، بشرط ألا تتلاعب بالدين أو تضع على وجهك قناع الإسلام، وهذا ما حدث فى الإسرائيليات التى لفظها العقل الإنسانى المسلم السليم، ولا يصح أن تصف نفسك بالإسلام إذا كنت منافقًا أو مخاتلاً أو طابورًا خامسا، وما يحدث الآن من النخبة اليسارية، يساريات كالإسرائيليات، حيث تتم المزايدة بالعدالة الاجتماعية وهو حق يراد به باطل، نعم فالتكافل الاجتماعى فى المنهج الإسلامى ضد القانون وضد العقل والمنطق، وهو ما ينبغى أن يحدث فى رفع سعر البنزين على سبيل المثال، حيث من العدالة الاجتماعية أن تأخذ الطبقات الفقيرة البنزين بسعر أقل من سعر الطبقات الغنية، وهذا يستلزم اجتهادًا فى تطبيق الآليات وهذا ما أعنيه بترشيد الدعم، حيث يمكن أن تعبر مصر أزمتها الاقتصادية الخانقة بالترشيد الحقيقى فى كل المجالات، بشرط أن يصب فى صالح الفقراء.
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا