تاريخ النشر : ٢٠١٥/٢/٢٥
من بدهيات الفكر السياسي أن الأحزاب هي الركن الأساسي في الحياة السياسية في الدول الديمقراطية، ومن بدهيات ذلك الفكر أيضا أن الحكم العسكري أو الحكم المستند إلى الدبابة (كرمز للقوة والسيطرة) لا يمكن أن يجتمع مع الأحزاب في نظام سياسي واحد.
ومن ثم فإن طلائع الشبان الديمقراطيين في الثورات التي امتدت في جميع أنحاء العالم السوفياتي (كما كان يسمى)، هتفوا دون اتفاق بمضمون تلك الازدواجية البدهية التي جعلت مطالبتهم بالديمقراطية في صورة زئير واضح وقوي ومحدد ومتكرر، يهتف بسقوط حكم العسكر.
وقد حاول ساسة مصريون محدثون أن يفاصلوا أو أن يفصلوا بين هذين المعنيين المتلازمين فلم يفلحوا، مع أن المعنيين يبدوان منفصلين سياسيا كما قد يبدوان -للوهلة الأولى- قابلين للمفاصلة عمليا أو مرحليا، لكن الساسة فشلوا تماما في محاولاتهم العابثة.
ثم كان من مفارقة القدر أن أتاح لهم التدخل الأميركي السافر في صيف 2013 أن يعاودوا كرّة المحاولة تحت مظلة أميركية (بديلا عن مظلة سوفياتية)، فنزلوا إلى الملعب دون حياء وبذلوا ماء وجوههم في هذا السبيل دون جدوى، إلا توريط أنفسهم في لعب دور موقوت ومشبوه، لوث تاريخهم تماما وجعلهم “غطاء” أو بالأحرى “وطاء” للانقلاب العسكري، ووصل تورطهم إلى المرحلة التي يصعب عليهم معها أن يزعموا بعدها التوبة أو التراجع.
وهنا يجدر بنا أن نشير بحب إلى ما يقرره كثير من المفكرين السياسيين العرب -بخليط من الواقعية والسخرية- من أن كثيرا من الساسة المصريين يعتقدون -دون دليل- تمتعهم بقدرات خيالية خارقة في تعاملهم مع نظم الحياة المستقرة، ويصل الأمر بهؤلاء إلى أن ينسبوا إليهم قولهم إنهم -كأسلافهم من عامة المصريين- نجحوا في أن يطلوا الهواء بالدوكو، ولما كان الهواء والدوكو شيئين متطايرين، فإن القاعدة في طلاء الأفق السياسي باللون الأيديولوجي لا تعدو أن تكون خيالاً في خيال.
ومع اعترافنا بالحدود الفاصلة بين الواقع والخيال؛ فإن الأمر لا يمنع الاعتراف بأن بعض إبداعات الساسة المعاصرين في تطويع النظم المستقرة لأهوائهم تظل في حاجة إلى كثير من التأمل في القدرة على خداع النفس، وربما أشير إشارة سريعة إلى واقعة حديثة جدا تلخص تاريخ الخداع السياسي ومآله، فقد فوجئ متابعو زيارة الرئيس الروسي فلادمير بوتين لمصر بمذيعة التلفزيون الرسمي تشير -في صراحة ومن خلال نص مكتوب- إلى أن صداقة مصر وروسيا تعود إلى اشتراكهما!! معا!! في تأسيس!! حركة عدم الانحياز!!
وهكذا انهارت في جملة واحدة ودون قصد تلال الأكاذيب التي كانت تصور حركة عدم الانحياز مستقلة تماما عن الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة!! ووصل الانهيار إلى أن أحدا (رسميا أو شبه رسمي) لم يُعن لا بالتصحيح ولا بالتعقيب.
وبالمواكبة لهذا الاعتراف الذي جاء من تيار اللاوعي؛ فإن مصر منذ شهور عادت إلى ممارسة لعبة يمكن وصف شعور النظام بها بأنها “لعبة الأحزاب الاضطرارية والإجبارية”، فالنظام الانقلابي السياسي لا يطيق فكرة الحزبية ولا يرحب بها، بل إنه -في صراحة ووضوح- سارع إلى وضع حزب الأغلبية نفسه في السجون، لكنه أصبح في الوقت الحالي مجبرا على العودة إلى ممارسة لعبة الأحزاب من أجل استحقاقات خارجية معروفة، أبرزها: الغرب الديمقراطي والبنك الدولي والمؤتمر الاقتصادي.
ومن ثم فلا بأس بمطالبات هنا وهناك بوجود أو تقبل أحزاب صناعية تفتقر إلى الروح والشكل معا، حتى وإن بدت محتفظة ببعض الشكل فحسب، ومن المؤسف (للانقلابيين) أن عامة الناس يعرفون -من خلال الخبرة الحديثة بالواقع السياسي- حجم هذا العبث ومنتهاه الحتمي..، ومع هذا يظن الانقلاب نفسه ذكيا.
وربما كان الإبداع المصري في هذا المجال بحاجة إلى إضاءة سريعة تطلعنا على طبيعة المسارات والمآلات المحتملة في المستقبل القريب، فنحن نعرف -على سبيل المثال والتكرار- أنه على مدار ربع القرن الأخير (وبالتحديد منذ ١٩٩٠ حين وقفت القوى السياسية متحفظة تماما على أسلوب أداء حسني مبارك)، فإن نخبة ضئيلة العدد والتأثير من المصريين العاملين في السياسة قادوا أنفسهم إلى التعامل المرن (أو البراغماتي) مع مجموعة من التجاوزات الفجة في الحياة الحزبية التي هي ركن ركين من أهم أركان الحياة السياسية.
وإذا بهم على مدار العشرين سنة الأخيرة من عهد حسني مبارك ثم من خلفوه من المجلس العسكري والانقلابيين يتقبلون عن طيب خاطر وطيب قلب (!!) فكرة هزلية تتجلى فيما تعارف عليه الفكر والنقد واللغة واجتمعوا على تسميته بظاهرة الأحزاب الكرتونية التي لا تمثل فكراً ولا أشخاصاً، وإنما تمثل -بلغة السوق أو النشاط الاقتصادي، وعلى أقصى تقدير- مساحات إعلانية محجوزة.
وهكذا فإنه على حين كان الحزبيون الحقيقيون يبحثون لأنفسهم عن موطئ قدم في الحياة الرسمية للأحزاب المصرية، فإن آخرين لا علاقة لهم بالسياسة ولا بالحزبية كانوا يجدون هذا المكان بسهولة ويسر، وكانوا يحتلونه معزَّزين مكرَّمين، ولم يحدث استثناء لهذ العبث إلا بدخول الإخوان المسلمين برلمانيْ ٢٠٠٠ و٢٠٠٥، في دوائر لم تتمكن جهة الإدارة (على حد قول التعبير القديم) من تزويرها.
ومن الإنصاف أن نشير إلى حقيقة أن المصريين المعاصرين كانوا لا يمانعون في تقبل الفكرة القائلة بأن هذا الخرق التام لفكرة الحزبية يدخل تحت مظلة القرار الوطني واستقلاله، وأن هذا التطوير الصوري والجذري في التطبيق المصري لفلسفة الحياة الحزبية ليس إلا شأنا داخليا وطنيا محليا من قبيل حريتك في اختيار طريقة الطهي داخل بيتك لأسرتك، وهو الأمر الذي يسمح لك بمخالفة أصول الطهي العالمية. ومن ثم فإن ظواهر التشوه في أسلوبك الممارس لوضعية قديمة قد يمرر دون أدنى صورة من الصور المعبرة عن إظهار الضيق، ولا التبرم ولا الاحتجاج.
وكان مما تلازم مع هذا أن تعثرت حركة ظهور أحزاب حقيقية ظلت أوراقها تتقلب حتى جاءت ثورة يناير/كانون الثاني ٢٠١١. وعلى سبيل المثال، فقد عانى أقطاب “حزب الوسط” المنشق أو المنبثق عن الإخوان المسلمين في أن يجدوا لأنفسهم مكانا تحت الشمس، وكان ملف الحزب يذهب إلى لجنة الأحزاب فترفضه أو تؤجله ثم تؤجله وترفضه… وهكذا، ثم يذهبون إلى القضاء الذي أقحم في السياسة -في ظاهرة ابتدعها عصر مبارك وهي ظاهرة “قضْيَنَة السياسة”، أي إقحام القضاء في أمور السياسة- فإذا بالقضاء ينصفهم مرة ويحبطهم مرات… وهكذا وهكذا.
وقد استمر بعض هذه التوجهات السياسية في المحاكم وفي لجنة الأحزاب سنوات وسنوات دون جدوى، وكان من الواضح للجميع أن هناك قراراً فوقياً قد اتخذ بمنع ظهور هذه الأحزاب.
وقد سجلت أكثر من مرة أن هذا المنع كان مرتبطا ارتباطا شرطيا وصل إلى حد القول بأنه عاش مصحوبا ومبرراً بإباحة (متناقضة) على الجانب الآخر، فقد كانت دولة مبارك نفسها تدفع ببعض محترفي العمل العام (ولا نقول السياسي) من المضمون ولاؤهم أو المقربين أو الذين تربطهم بالنظام حبال سُرَّية، ليؤسسوا أحزاباً يمكن وصفها بأنها كانت مضمونة التأسيس كما أنها مضمونة الولاء.
وكان هذا يتضح بصورة كاريكاتيرية إذا ما احتاج النظام إلى جماعات ممثلي “الكومبارس” لحضور فعالية سياسية من قبيل مؤتمر الحوار الوطني أو ما إلى ذلك، وعندئذ يهرول هؤلاء للحضور وهم يضمنون طعاماً فاخراً ومأدبة شهية، ثم هم يضمنون (وهذا هو الأهم) فرصة للقاء الوزراء والمسؤولين، والحصول على تأشيرات مباشرة أو وعود مباشرة بدلاً من الانتظار في مكاتب السكرتارية عند هذا أو ذلك.
وفضلاً عن هذا؛ فقد كانت هناك وجاهة اجتماعية لهذا الذي يتصور نفسه في صورة النبيل أو الماركيز أو البارون أو الباشا الجديد رئيس الحزب.
على أن هناك ما خفي مما هو أعظم، وهو ما كررت الإشارة إليه من أن كل حزب من هذه الأحزاب كان يتقاضى من الدولة نفسها أموالاً، ومعونات يصرفها مجلس الشورى من موازنة خاصة. هذا فضلاً بالطبع عما كانت هذه الأحزاب تحصل عليه من مصروفات سرية أو شبه سرية، ومن مميزات لا تنتهي.
لست أريد أن أمضي في تصوير واقع الحياة الحزبية القادمة أو الانقلابية إلى ما هو أبعد أو أعمق من هذا، مع أن هذا من واجبي للتاريخ، لكني أحب أن أصل إلى أنه حتى هذه الصورة التي عشناها منذ سنوات سوف تكون أفضل تماما من صورة الحزبية القادمة التي يتصور الانقلابيون أن بوسعهم أن يفرضوها على مصر بعد الانقلاب على ثورات الربيع العربي.
ذلك أن معظم هؤلاء الانقلابيين ومستشاريهم السياسيين لا يعرفون من الحزبية أكثر من هذا النموذج العنكبوتي المتماسك الذي يعتقدون أنه قابل للتكرار، بل يؤمنون عن اقتناع ويقين بأن هذا النموذج المشوه هو أقصى ما يمكنهم أن يسمحوا به، وأنه ليس للمجتمع الدولي أو الغربي أن يطلب منهم أي ضمان لحقوق الإنسان، في إطار ما يُسمى عند الغرب بالحياة الحزبية والعمل السياسي وممارسة الديمقراطية!!
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
لقراءة المقال على موقع الجزيرة.نت اضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا