تاريخ النشر:٢٠١٥/١/١
قبل الانقلاب في مصر بأسبوعين كان الداعون له حريصين بكل إلحاح على أن يوسعوا من قاعدة التورط في تأييده، ولما بدت حججهم في الشكوى من ممارسات الإخوان أضعف من أن تقنع كثيرين بضرورة اللجوء إلى الانقلاب العسكري، بدأ هؤلاء المحرضون يصرحون بما لم يكن متوقعا أن يصرح به أحد في ثنايا الإعداد الخفي والمتخفي لمثل هذه المؤامرة على الديمقراطية.
ووصل الأمر إلى حد أن قال لي وزير من الوزراء الذين اشتركوا بفعالية في الانقلاب: إن القرار بالانقلاب قرار أميركي صرف ولا رجعة فيه، وإنه اتخذ على أعلى مستوى، ونحن نركب موجته ليس إلا. فسألته بتهذيب شديد عن نطاق كلمة “نحن”، فقال بوضوح لا لبس فيه إنها تشمل أربعة: قيادة الجيش، وجبهة الإنقاذ، ومجموعة الفلول، وكبار الموظفين من أمثالنا (يقصد بهذا ما نسميه اصطلاحا بالتكنوقراطيين من غير ذوي الانتماء الحزبي).
وفي ظل التمهيد “المدفعجي” المكثف للانقلاب كانت مقطوعات مخادعة قد ألفت بقصد التشويش فحسب، لكنها سرعان ما تحولت بسبب الإلحاح الإستراتيجي إلى سيمفونيات يتكرر عزفها (فرديا وجماعيا) عن تحالف الإخوان المسلمين الوثيق مع الأميركان والإسرائيليين، أو على الأقل عن علاقات تعاون جيدة ومتطورة للأحسن.
وبلغ الأمر إلى حد التسليم التام بالقصة المشهورة التي تولت تصوير بيريز صديقا حقيقيا وحميما للرئيس مرسي، وأدى هذا إلى نتيجة عكسية حيث أصبح الانقلابيون (في خطابهم للمحايدين وللكتلة الصامتة) مضطرين وفي حاجة مضاعفة إلى تأكيد فكرة وقوف الولايات المتحدة الأميركية بكل قواها مع الانقلاب، مع أن التصريحات الأميركية الرسمية كانت (من باب التمويه) تنفي هذا بكل وضوح وحسم.
وهكذا فإنه مع ضيق الوقت كانت تنمو ازدواجية صارخة في الخطابية السياسية. فمن ناحية ازداد حديث الرسميين الأميركيين عن الشرعية واحترامها، وعن الانقلاب واستبعاده واحتقاره، وارتفع ضجيج الآلة الإعلامية المتهمة للإخوان والرئيس المنتخب بالعمالة لأميركا وإسرائيل.
ومن ناحية أخرى (لازمة ومتلازمة)، كانت حاجة الانقلابيين تزداد مع الوقت إلى إقناع مؤيديهم سرا ثم علنا بالعكس الصريح، وهو أن أميركا بقضها وقضيضها مع الانقلاب روحا وعملا، وقد وصل الأمر بخلايا الانقلاب إلى تمويل تنظيم رحلات مكوكية لعدد كبير من المصريين البارزين إلى واشنطن ليسمعوا بآذانهم ترحيبا أميركيا بالتغيير المخطط له، وليجدوا آذانا مسؤولة تسمع شكاواهم المصنوعة من الإخوان بتعاطف مصنوع، يكاد يذرف الدمع وهو يقول المقولة الأميركية المشهورة : “يا إلهي!!”.
وكان هؤلاء الفنانون والسياسيون والمشاهير يعودون فيصرحون في المجالس الخاصة بأن المسألة مسألة وقت، وأن قرارا أميركيا قد اتخذ بالقضاء البات دوليا على الإخوان في مصر وتركيا وتونس وقطر وغزة وليبيا وكل مكان محتمل مهما كان الثمن، وأن تنفيذ قرار الإعدام الجماعي لن يستغرق أكثر من ثلاثة أيام. وبعدها يمكن لأميركا أن تحتفل بلا مواربة بكونها البطل المنقذ الذي قبل أن يتخفى لفترة يكون فيها بمثابة الجندي المجهول.
هكذا بات المصريون البارزون في الأسبوعين السابقين للانقلاب وهم متأكدون من أن أميركا تصنع لهم انقلابا لا تخفي أصابعها فيه، وإن لم تمانع في أن تصور نفسها بعيدة عنه.
وفي واقع الأمر وعلى المدى التاريخي الطويل، فقد كان التورط في مثل هذا التصريح الفج بنوايا السياسة الأميركية أمرا غير مسبوق على مدى السبعين عاما التي شهدت صعود تأثير هذه السياسة، التي تعوّد العالم منها أن تخفي تورطها بأقصى آليات الطمس.
ومن حسن حظ الشرعية في مصر أن رزقت -دون توقع- بمن أجاد التعبير ببلاغة ودقة وحرفية عن حقيقة الموقف الانقلابي الإجمالي منذ لحظاته الباكرة، فلما بدأت الولايات المتحدة في أداء حلقات المسلسل التقليدي الذي يصورها حريصة على التظاهر بإنكار الانقلاب، واستنكار فكرته، وأنها تعمل على استكناه طبيعته وعلى حث قادته على الالتزام بالديمقراطية وحقوق الإنسان، إذا بصوت الضمير المستيقظ في مصر يعلن بوضوح قاطع ومنذ اللحظات الأولى أيضا، أن مسايرة هذه المزاعم بأي قدر من تمني صحتها أو بناء الآمال عليها، هو نوع من خيانة الأمانة وإضفاء الشرعية على الباطل. ولهذا جاهر هذا الضمير بأن الإدارة الأميركية تملك 100% من أوراق الحل، وليس 99% فقط، وجاء هذا الرد حاسما على زعم باحث أميركي يهودي كبير في مناظرة تلفزيونية أن تأثير الولايات المتحدة في السياسة المصرية ضئيل للغاية ولا يكاد يذكر.
وعلى مدى الشهرين الأولين من عمر الانقلاب تلاشى أثر الاعتماد على إستراتيجية الإنكار الأميركية المتقنة الإعداد، بفعل موقف إيماني وحيد تمثل في التعبير الواثق عن ترسخ اليقين من حقيقة موقف الإدارة الأميركية في دعم الانقلاب وصناعته، تخطيطا وتنفيذا وتشجيعا وتمويلا وترحيبا.
وهكذا جاءت أخبار التصريحات واللقاءات والتحركات والتسريبات لتصب دون أن تقصد في معين التأكيد على الحقيقة التي أصبحت ساطعة سطوع الشمس في نهار أغسطس/آب، وهو الشهر الثاني للانقلاب، ثم وصل الأمر إلى أن أصبحت الجموع الشعبية تتوقع بالتحديد الدقيق طبيعة ردود الفعل المراوغة التي سوف تبديها المؤسسات الرسمية الأميركية تجاه مذبحة رابعة والنهضة، قياسا على ردود فعلها تجاه المذابح التي سبقتها من قبيل مذبحة الحرس الجمهوري، وقد كانت ردودًا ميكانيكية ملبسة (ولا نقول: منافقة) وغير ذات مدلول، تحاول التلاعب بالدوران حول ما تسميه العنف، ومن البديهي عند الجماهير المسالمة أن القاتل وحده هو من يصف قتل ستة آلاف متظاهر سلمي في مذابح مروعة بأنه عنف فحسب.
وهكذا فإن أميركا -ودون أن تدري- سارعت بصنع صورتها المشوهة والملوثة بالدم في العالم الإسلامي كله قبل أن ينقضي شهران على الانقلاب، الذي صنعته في قلب العاصمة التي شهدت منذ سنوات قليلة محاولة أميركية جادة وجسورة لبناء علاقات جديدة مع العالم الإسلامي تمثلت في خطاب احتفالي كبير ألقاه أوباما نفسه في قاعة جامعة القاهرة التي شهدت ساحتها الخارجية ثاني أكبر مذبحة من مذابح الانقلاب، وهي مذبحة النهضة، أما أكبر المذابح وهي مذبحة رابعة فقد وقعت -من باب المصادفة أيضا- على بعد خطوات من المكان الذي كان مرشحا لأن يلقي فيه أوباما كلمته، وهو مقر جامعة الأزهر.
ومن الجدير بالذكر هنا أن الدعوة إلى الحفل الذي ألقى فيه أوباما كلمته كانت موجهة باسمي شيخ الجامع الأزهر ورئيس جامعة القاهرة، وكان هذا التوجيه قرارا أميركيا صرفا لم ترق المشاركة المصرية فيه إلى درجة المشورة ولا حتى المشاورة.
وهكذا، فإن برنامجا أميركيا جادا وضخما (كان قد بدأ قبل عقد من الزمان) من أجل التحول الديمقراطي في العالم العربي، انتهى في منتصف أغسطس/آب 2013 إلى أسوأ كارثة مدبرة في تاريخ الديمقراطية في العالم. وقد تبدت الكارثة فيما يعتقد المصريون (والمسلمون معهم) أنه كمين تمثل في تشجيع جماهير شعبية مسالمة كبيرة العدد على إبداء آراء سياسية باقتناع وجدية وحماس وسلمية من أجل هدف واحد، لم يكن ليخطر ببال هذه الجماهير، وهو القضاء عليهم ذبحا في ست ساعات، بقوات شركات أمنية أميركية تمولها خزائن عربية تنفذ قرارات “بنتاغونية” تحظى بمباركة ومشاركة رئاسية أميركية. وهكذا سقطت صورة أميركا عند العرب والمسلمين في مستنقع عميق، لم تصل إليه حتى في التصويرات الحماسية المعادية لدورها في 1967 أو في حروب العراق.
وفيما يبدو، فإن فظاعة ما حدث في رابعة وما بعدها قد تسببت في ظاهرة لم يعرفها تاريخ التعامل السياسي الأميركي مع التطورات غير المحسوبة، وهي ظاهرة أقرب إلى الشلل التام. فقد غاب تماما عن رد الفعل الأميركي أي ملمس إنساني في التعامل مع ضحايا المذبحة أو تقديم العزاء إلى ذويهم أو حزبهم أو جماعتهم، أو الحصول على تأكيد (ولو صوري) من السلطة الغاشمة في مصر بأن هذه هي آخر المذابح، أو تقديم دعم مادي عاجل (ولو ضئيل جدا) من خلال أي مؤسسة أميركية (حتى إن كانت غير حكومية أو غير سياسية أصلا).
وكان هذا الشلل المفاجئ نادر الحدوث، مما عمق أيضا بسرعة شديدة من عملية الحفر (الغرافيكي) التي استهدفت آليا تشويه أميركا نفسها لصورتها على يدي الانقلاب المصري أو الأميركي، فقد ظهرت في غياب الإنكار وكأنها سعيدة بما حدث.
ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فقد جاءت موجات من الأحداث المحلية والعالمية لتضيف إلى تعميق التشويه الأميركي للصورة الأميركية عند المسلمين. وكانت الظاهرة المشتركة المسيطرة على هذه الموجات هي انتهاج الانقلابيين المصريين سياسة الهجوم الدائب والمحموم على السياسة الأميركية بحق وبغير حق، وهو هجوم وصل إلى حدود تاريخية غير مسبوقة في تحقير الساسة الأميركيين وشخصياتهم وتوجهاتهم وسلوكياتهم وعائلاتهم، لكن هذه السياسة الهجومية المعادية والمقذعة في عداوتها كانت هي البديل الوحيد المتاح أمام الانقلابيين في أي موقف محرج يواجههم.
وعلى سبيل المثال، فإنه إذا حدث النادر وانتقدت منظمة حقوقية سلوكا انقلابيا إجراميا بناء على تصويت ذهبت الأغلبية فيه إلى إدانة الانقلابيين على الرغم من محاولة أميركا إنقاذهم، بل والتصويت لصالحهم ضد حقوق الإنسان، رد الانقلابيون وبسرعة بالهجوم الفظيع والألفاظ المقذعة في حق أميركا الإمبريالية على الرغم من أنها أراقت ماء وجهها من أجلهم، ولم تشارك في الفعل الذي استفزهم.
ويتكرر هذا التناقض لسبب بسيط، وهو أن آليات الإعلام الانقلابي ناصرية الطابع، تؤمن بثلاث مسلمات فقط، وهي: أن الغرب كله أميركي القرار (أولا)، وأنه لا سبيل إلى شحن جماهيرها في صفها إلا بتشويه أميركا ثم الهجوم عليها (ثانيا)، ثم تأتي المسلمة (أو بالأحرى الأكذوبة) الثالثة، وهي أن قوة شخصية الزعيم الانقلابي هي التي تضطر أميركا إلى الركوع (وهذا هو أكثر الألفاظ تهذيبا) أمامه.
ولا أظن أن أي تخطيط أميركي للانقلاب أو للخلاص من الإسلاميين كان يمكن له أن يتوقع أن تتشوه صورة جراح أميركي متمرس على هذا النحو المهين، نتيجة قيامه بمثل هذه الجراحة التقليدية التي كانت على الورق لا تعدو أن تكون جراحة آمنة سريعة غير مكلفة، فإذا بمساعده (وهو الممرض المصري غير الماهر الذي قبض الاتعاب لنفسه وبنفسه) يفسد إنجاز الجراح ويزيد على هذا ثلاث مصائب. فهو يجرحه، ويجرّحه ويحرجه. يجرحه أي يصيب الأستاذ الطبيب بالجروح بسبب عصبيته وجهله في أداء دور مساعد بسيط، ويجرّحه أي ينقده بقسوة، ويحرجه أي يضعه في وضع حرج.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
لقراءة المقال على موقع الجزيرة.نت اضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا
روعة
بارك الله فيك يا دكتور