تاريخ النشر: ٢٠١١/١٢/١٨
منذ ما يقرب من ربع قرن من الزمان فاجأتنى جامعتى، ولا أقول فاجأنى أستاذى الذى كان رئيسا لها، مفاجأة لم تكن سارة لى، أو بالأحرى لم تكن مريحة، إذ وجدت أكثر من عميد يقابلوننى بعد خروجهم من مجلس الجامعة ويخبروننى بأنه وقع على الاختيار عضوا فى مجلس إدارة مطبعة الجامعة من الخارج.
ذهبت لأستاذى وكلى ضيق وألم لأننى لم أكن أريد هذه المسئولية بأية صورة من الصور، فإذا به على عادته يسبقنى بالحديث ويقول: إن نائب رئيس الجامعة لشئون التعليم والطلاب الذى هو رئيس مجلس إدارة المطبعة هو الذى اقترح هذا فى مجلس الجامعة وأصر عليه، وإن جميع العمداء وأعضاء مجلس الجامعة أثنوا على هذا الاختيار.
قلت: ولكنك تعلم أنى رفضت ما هو أكثر من هذا منذ عامين ومنذ عام، وكنت أشير إلى إلحاح نائب رئيس الجامعة السابق، الذى هو أفضل أساتذتنا على الإطلاق فى تعيينى مشرفا على المطبعة ودار الجامعة للنشر (وكنت قد أسستها ووضعت نظامها) بالإضافة إلى مؤسسات الجامعة الثقافية، وأنشطتها على أن يكون هذا بصلاحيات عميد، مع أنى لم أكن قد وصلت إلى الأستاذية ولا إلى نصفها.
قال: لكن الوضع الجديد أفضل.
قلت: كيف؟
قال: لن تكون الطبيب المعالج، وإنما ستكون استشاريا فحسب.
هدأت أعصابى.. وبعد قليل قال أستاذى: ألا تذكر قرار المستشارين فى جامعة القاهرة؟
قلت: أذكره..
قال: إن هذا الوضع أفضل.
قلت: كيف يكون أفضل؟
قال: إن مستشار رئيس جامعة مرتبط بشخص الرئيس، ولكن عضو مجلس إدارة أى شىء لا يرتبط بشخص الرئيس.
قلت: أنت الذى علمتنى ألا أحب هذا الوضع أو ذاك.
قال: لقد فوجئت بالعرض فى مجلس الجامعة ولم أكن أملك إلا الثناء على اختيارك.
قلت: أنت تعرف أنه لا وقت عندى للذهاب، ولست فى السن التى أسعى فيها إلى مناصب شرفية بدون أداء عمل، وأنت تعرف طبيعة عمل مثل هذه المجالس، فكيف أقودهم وأنا أصغرهم والأمر لا يخلو من أغراض!
قال: أعرف كل هذا.
قلت: وما الحل؟
قال: أعدك أن أذهب معك بنفسى إذا اقتضى الأمر سلطة عليا.
سكت على مضض وظننت كلام أستاذى نوعا من المراضاة.
ولكن حدث ما لم أكن أتوقعه.. فلم تمض شهور حتى عين أحد العمداء نائبا لرئيس الجامعة لشئون البيئة، ولم يكن أحد يشغل هذا المنصب قبل هذا، ونقلت تبعية المطعبة باعتبارها وحدة ذات طابع خاص إلى إشرافه، وهكذا ظل تشكيل مجلس الإدارة كما هو باستثناء تغيير رئيسه، وإذا بإدارة المطبعة مستعينة بالأمين العام وبنائب رئيس الجامعة تعد مذكرة مفصلة بالاستغناء عن العمال الموسميين فى المطبعة، وجاءنى جدول الأعمال ومحضر الجلسة السابقة وصور المذكرات المعروضة على المجلس ومنها هذه المذكرة، اتصلت بالمطبعة ولم يكن صعبا أن أعرف بسرعة أن عدد العمال الموسميين قد وصل إلى أكثر من مائتى عامل. انزعجت أيما انزعاج وذهبت إلى أستاذى من فورى وقلت له: إن المجلس سينعقد بعد ساعة فى مقر المطبعة وإنهم مقدمون على كارثة لن تكون أمنية فحسب، ولكنها إنسانية أيضا، زم أستاذى شفتيه وأطرق صامتا وفى فترة صمته ذكرته بوعده القديم بأن يحضر معى المجلس إذا احتاج الأمر، ولكنى تعجبت كيف يحضر رئيس الجامعة مجلسا فرعيا يرأسه نائب رئيس الجامعة، ولأنى لم أتعود الإحجام عن التعبير عما فى رأيى، فقد رويت له ما كان يدور بخاطرى من رؤيتين متعارضتين. حتى دخلنا المطبعة لم يكن أحد من العاملين يدرك أن رئيس الجامعة قد جاء بنفسه ليحمى حقوق العاملين الموسميين الذى يعتزم الجهابذة إنهاء عملهم بتأشيرة واحدة فى جلسة من جلسات مجلس الإدارة، لن أذكر شيئا عن سخونة المناقشات التى دارت فى ذلك اليوم كنت أنا وأستاذى فى ناحية، وكان الباقون فى ناحية أخرى، ولكن يكفى أن أذكر أن أحد العمداء لم يجد حرجا فى أن يشير إلىّ مهددا ومذكرا بأننى أنا نفسى كنت قبل 6 سنوات أطالب بمنع تعيين هؤلاء من الأساس.. ولم أنكر هذا بالطبع أنى كنت أمنع تعيينهم حين كان عددهم لا يتعدى خمسة، أما الآن وقد وصلوا إلى أكثر من مائتين على مدى 6 سنوات، فلم يعد الأمر مرتبطا بالصواب والخطأ وإنما أصبح مرتبطا بالسلام الاجتماعى وبيوت مفتوحة، وإذا بى أهدده، على الرغم من مكانته بأن تعكير السلام الاجتماعى شأنه فى القانون شأن الإساءة إلى الوحدة الوطنية تماما. رد أحد أعضاء مجلس الإدارة علىّ مستغربا من تعبير السلام الاجتماعى سائلا: من أين يصرف هذا السلام الاجتماعى؟ وما هو المقصود به؟ وما علاقته بما نحن فيه؟
قلت: إن هذه الأمور لا تبسط، ولكن لابد من تبسيطها، والمسألة تتصل بالتحولات التى أطلقها السادات فى عهده بعد انتصار أكتوبر، فالديمقراطية (على سبيل المثال) قد تفتح المجال لمناقشات ومناظرات تهدد الوحدة الوطنية، ولهذا كان لابد من قانون يحمى الوحدة الوطنية من تجاوزات الديمقراطية.
قال عضو مجلس الإدارة: قد أفهم هذا مع تحفظ، لكننى لا أفهم السلام الاجتماعى الذى تتهمنا بتهديده، وتهددنا بالعقاب على هذه التهمة.
قلت: إن التحول من الاشتراكية إلى اقتصاد السوق (وهو ما سمى بالانفتاح الاقتصادى) ينشئ أوضاعا كالتى نحن فيها الآن فى هذه الجلسة، حيث يظن الأكاديميون والرسميون أن واجبهم هو إمضاء ما يظنونه صوابا.
قاطعنى عضو آخر وقال: أرجوك أن تعدل عبارتك فتضع «ما يعتقدون» بدلا من قولك «ما يظنون».
قلت: أوافق، لكنى ما اخترت هذا الفعل إلا لكى أحفظ لكم خط الرجعة.
قال الرجل: مع أنى لا أفهم ما تعنى إلا أنى أحس فى نبرتك إخلاصا لنا وصدقا، فلا تنس أو تشرح ما تعنى بخط الرجعة بعد أن تنتهى من مسألة السلام الاجتماعى.
قلت: إن مثل هذا الذى نناقشه اليوم من تطبيق قواعد الاقتصاد والإدارة الصحيحة، ربما قاد، كما تعلمون إلى إغلاق بيوت، وربما قاد إلى مظاهرات تدمر من المنشآت والآلات أكثر مما يوفره من مال!
هنا قال أستاذى الجراح: لا تقل «ربما» أحذفها وضع بدلا منها إدارة تفيد التوكيد، فلاشك أن هذا سيحدث عندما يجد عمال اليومية هؤلاء أنفسهم فى الشارع وقد خسروا موارد رزقهم، ثم توجه بكلامه إلى المجتمعين وقال:
هل تظنونهم يا سادة سيخرجون الآن هاتفين لكم لأنكم أصلحتم ميزانية المطبعة، أو وفرتم لها بعض المال؟
هل ستظنونهم يقدمون لكم باقات ورد على إنجازكم خطوة إصلاحية من وجهة نظركم؟
ألا تعرفون أنهم سيكونون فى هذه الحالة أقرب إلى الوصف العامى: فاقد.. فلا يهمهم أن يشفوا غليلهم بتكسير كل ما يصادفهم.. فماذا تفعلون حينذاك؟
ولكن فلنؤجل حديثنا حتى ينتهى محمد من كلامه.
قلت: ما عاد بى حاجة إلى المزيد، فقد اتضح المعنى، لقد وضعت قوانين حماية السلام الاجتماعى من أجل تبصير المسئولين من أمثالنا بأهمية تقدير الموقف الاجتماعى لقرارات التحول الاقتصادى فى مستوياته المختلفة، وضرورة حساب الآثار الإنسانية، وليس معنى هذا أن تتقاعس الدولة، ولا إدارتها عن خطوات الإصلاح الاقتصادى، لكن معناه أن تحسب حساب القرارات وأن تصدر القرارات التى تعالج الآثار الجانبية فى الوقت الذى تصدر فيه قرارات الإصلاح.. تماما كما نصف الدواء ومعه دواء آخر يعالج أثرا جانبيا له.. بل إن الطب والصيدلة كما تعلمون جميعا قد تقدما إلى حد دمج الدواءين معا فى قرص واحد إذا كان الأثر الجانبى من الشيوع إلى حد كبير! أخذ أستاذى هذا المعنى فأعاد شرحه بلغة جميلة أزالت كل التوتر الذى كان بين الفريقين، وجعلت الجميع على نحو ما كان يفعل دائما يعودون يدا واحدة.. وروحا واحدة، وقد اجتمعوا على حبه، وعلى حب ما يقوله، وعلى حب الطريقة التى يقدم بها الأفكار. ثم التفت أستاذى من دون أن يبدو وكأنه يقطع تواصل الحديث وقال لى: أتظن أن السادات كان واعيا إلى هذا الحد على نحو ما صورت لنا الآن ولهذا وضع هذه القوانين مبكرا؟.. أتظنه وجد من عبر عن فكره على نحو ما تعبر الآن؟ إنى لا أظن أنى قرأت لأحد من رجاله ما دافع به عن سياساته الداخلية على نحو ما تفعل أنت.. ألهذا كان يحبك؟
قلت: بل لهذا كنت أحبه ومازلت أحبه.
سارع أحد أساتذتنا من المحبين لى ولأستاذى وقال لأستاذى: ألست أنت القائل لمحمد إننا نحسد السادات عليه حيا وميتا؟
قال أستاذى: وها هى الأيام تثبت أنى لم أكن أجامل.
قلت: ما هذا إلا جزء يسير من فيض عطف غزير، وما هو إلا تقدير أكبر مما أستحقه.
قال أحد أستاذتنا الحاضرين فى شبه دعابة، فإذا كان الأمر كذلك فإنى اقترح على المجلس إكراما لكما وللسادات أيضا أن نعدل عما انتويناه من قرار.
وركبت سيارتى إلى القاهرة وكان السائق فيما يبدو متعبا فاستأذنته فى أن أقود السيارة بدلا منه، وكنت لا أفتأ أتوقف لأجفف دموعى بعدما تبتل بها عيناى وأنا على مقود السيارة.. وربما كانت بعض نعم الله المتتالية على بفضل دعاء هؤلاء العمال المساكين الذين عرفوا فى ثوان معدودة كل ما حدث فى ذلك اليوم دون أن أكون مرشحا أسعى إلى أصواتهم.. وكانت النتيجة أنهم عاملونا أستاذى وأنا بما هو أكثر بكثير من الرفع على الأعناق.
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا