تاريخ النشر: ٢٠١٤/١٢/٥
يتعجب كثير من الأميركيين من أنه، رغم كل الثوابت العلمية والمادية الحاكمة لثقافتهم ورؤيتهم للحياة والقدر، لا يزالون يجدون بين رجال دولتهم نموذج السياسي الذي يتفاءل بمروره على مكان يري فيه تميمة حظه، حتي إذا ما صادفه فأل سيئ ذات مرة فإنه يرجع الخطأ إلى نفسه لا إلى اتباعه الأسلوب الميتافزيقي الذي لا يقوم على أساس علمي أو مادي.
لكن العجيب أن هذا النمط من التفكير أصبح بمثابة سمة من أبرز السمات الحاكمة في سياسة دولة عظمى كالولايات المتحدة الأميركية التي لا تزال بالفعل أسيرة للتفاؤل بمنهجها في الحرب العالمية الثانية حيث تركت العالم القديم يتصارع بعضه مع بعض، ووقفت على الحياد إلى أن ركبت موجة الانتصار دون أن تدفع مقابلا موازيا في هذا الركوب أو لهذا الركوب المريح الممتع.
وقد أصبح الأميركيون (على الدوام) يفضلون هذا النموذج، بل إنهم مروا في هذا التفضيل بثلاث مراحل متداخلة (بأكثر منها متتالية) فقد كانوا تواقين إلى هذا الأسلوب وكان الحظ يأتيهم به، ثم تحولوا إلى ممارسين له، ثم أصبحوا مجبرين للآخرين على سلوكه، معتمدين في هذا الإجبار على مفاتيح النفوذ والمخابرات والإعلام. وقد أصبحت هذه المراحل الثلاث (من مراحل التمني المتحقق) بارزة للجميع دون إخفاء.
ولسنا في حاجة إلى كثير من الأدلة على أن هذا المنطق يمثل جوهر فكرة التحالف الدولي التي تسابق الولايات المتحدة نفسها الآن لتمريرها بأي طريقة، لأنها هي التميمة الوحيدة أمامها من أجل تحقيق نجاح مطلوب بأقصى قدر من الإلحاح.
وربما كان من حق القارئ أن نعرض له على سبيل الإجمال السريع (أو بالرمز الدال في عمقه وامتداده) مدى صواب فكرتنا هذه فيما يخص منطقتنا من العالم القديم أو العالم العربي والإسلامي بعيدا عن حروب أميركا في كوريا وفيتنام وأميركا اللاتينية.
ومن المفيد أن ننطلق مثلا إلى نقطة من نقاط الذروة في الحرب الباردة حين كانت الولايات المتحدة تغذى بطريقة غير مباشرة حرب اليمن في سبيل استمرارها مشتعلة!
ومن الصحيح أنها لم تكن تغذي أيا من طرفي الصراع بطريقة مباشرة مكشوفة لكنها في واقع الأمر كانت تفعل ما هو أخطر أثرا وهو تغذية الحرب نفسها كي يظل أوارها مشتعلا، وفي غضون هذا كانت الولايات المتحدة لا تفتأ تدفع البريطانيين من ناحية والسوفيات من ناحية أخرى إلى موقفين متباينين من المنطقة، وقد نقلت هذا الصراع ليكون بين بريطانيا من ناحية والاتحاد السوفياتي من ناحية أخرى بينما تتظاهر بأنها مكتفية من المنطقة بأوسع منطقتين من مناطق النفوذ!
والقارئ للوثائق والدراسات والمذكرات الآن يستطيع أن يرى أميركا بكل وضوح وهي تدفع بريطانيا (نظريا وإستراتيجيا) إلى إطالة البقاء في منطقتي الجنوب العربي والخليج العربي في حين كانت تشجع إعلاميا ودعائيا على سياسات طاردة للنفوذ البريطاني وإلى أنه قد حان أوان الخروج من هذا النفوذ إلى المظلة السوفياتية الأصلية، أو السوفياتية التابعة التي كانت تتستر تحت أسماء كبيرة من قبيل عدم الانحياز أو التضامن أو القومية العربية أو البعث.
وفيما بعد سنوات قليلة من هذا التضليل المتعمد لشعوب المنطقة بات الجميع مدركين لحقيقة أن بريطانيا لعبت دون أن تدري الدور الأصعب في إحلال الولايات المتحدة محل نفسها، أي أن بريطانيا أحلت أميركا محل بريطانيا بتمويل بريطاني وربما بجنود بريطانيين أيضا أو بمرتزقة بريطانيين، وهذا موضوع آخر.
وكانت الولايات المتحدة في حقيقة الأمر تكرر الإفادة من تميمة حظها في الحرب العالمية الثانية حين كسبت الحرب بدماء الحلفاء وثرواتهم، وخرج الحلفاء منهكين مستنزفين بينما خرجت هي مزدهرة منتعشة بل ومنتفشة أيضا.
وبعيدا عما يعرفه العرب بكثافة عن مجريات الأمور في الحروب العربية الإسرائيلية والحرب العراقية الإيرانية لا يستطيع أحد تجاهل الحقيقة الواضحة، وهي أن المستفيد من هذه الحروب هو الولايات المتحدة وليس ذلك الطرف أو ذاك ممن انتصروا في الحروب، والأمر بهذا أصبح شبيها تماما بما نعرفه من أن عائد الشركة المنظمة للسباق (أو الرهان) أصبح يفوق بمراحل ما يحصل عليه الطرف الفائز بالرهان أو السباق.
وهكذا استقر في الأعراف الإستراتيجية (دون أن ينظر) أن المستفيد من الحرب قد يكون (بنسبة 100%) طرفا آخر غير الفائز، بل إنه كذلك بالفعل، ذلك أن الحروب أصبحت تؤدي إلى نتيجة ثلاثية الأوجه (وليست ثنائية الوجهين كما في التاريخ) فهي تؤدي إلى هزيمة الخاسر وفوز المنتصر ومكسب المستفيد. فإذا قال الفائز: أين مكسبي قال له: أما يكفيك أنك انتصرت؟
بيد أننا لا نستطيع أن نتمادى فنقول إن الولايات المتحدة الأميركية كانت دوما بمثابة المستفيد من كل الحروب التي جرت بهذا المنطق، ذلك أن الاختراع لا يعود على مخترعه وحده بالفائدة! وإنما هو بفعل الزمن حق مشاع لكل من يستغله بثمن أو بغير ثمن.
وبعيدا عن الدخول في حسابات الربح والخسارة وتقييمها فإني أود أن أخلص إلى الحقيقة التي أصبحت مسيطرة على رسم الإستراتيجيات في الولايات المتحدة والتي أصبحت تتمثل أولا في دراسة جدوى للفوائد، المحتمل والمطلوب والمتوقع حصول الإدارة الأميركية عليها، وهو سؤال أصبح سابقا في الأهمية للسؤال المتوقع عن وسائل النصر واستعداداته، وإن لم يكن سابقا بالطبع على السؤال المعبر عن الحذر التقليدي من الخسائر المحتملة أو المتوقعة.
ولهذا السبب كنت ولا أزال أنصح الذين يعرضون وجهات نظرهم على الإدارة الأميركية بأن يجيدوا إثبات ضخامة حجم الفوائد التي تنتظر الأميركيين إذا دفعوا بحلفائهم في اتجاه فريقهم دون الفريق الآخر.
ونأتي الآن إلى الأهم وهو أن النظرة الإستراتيجية المنصفة للعلم لا تنتهي عند الحد الذي انتهينا من تلخيصه لتونا لسبب بسيط، وهي أنها ليست نظرية ميكانيكية إستاتيكية وإنما هي نظرية تعني بالصراع الإنساني مع الحياة نفسها، ولأن الإنسان والحياة لا يخضعان كلية للمنطق الميكانيكي الإستاتيكي وحده فإن في الأمر ما هو أهم من كل هذا الذي صورناه، وربما كان القانون الأول من قوانين الميكانيكا الحركية (الديناميكا) كفيلا بإشعال التفكير في الجزء الكامن من القضية، وهو جزء تحول من طاقة حركة إلى طاقة وضع كفيلة بأن تتحول في لحظة واحدة إلى طاقة حركة مرة أخرى.
يتمثل هذا المكون في رد الفعل الذي قد لا يعبر عن نفسه بطريقة تلقائية أو آنية، لكنه سرعان ما يعبر عن نفسه عندما تستدعيه التطورات اللاحقة مهما كان التصور القائم على أنها بعيدة عن القدرة على الاستدعاء.
وبعيدا عن الرجم بالغيب أو ضرب الودع فإني دون أن أستثير أعصاب الأميركيين وحلفائهم أستطيع أن أرى أن الأميركيين من حيث لم يخططوا، ومن حيث لم يريدوا، ومن حيث لم يدروا، ومن حيث لم يحبوا قد تولوا بإخلاص شديد ودأب شديد إعداد وتدريب أكبر عدد من القوى البشرية الحقيقية منذ بدأ تدخلهم في الحرب الأفغانية السوفياتية، وطيلة 35 عاما حتى الآن في مواقع مختلفة من العالم القديم.
وإذا كان تاريخ الإنسانية قد عرف مع توالى القرون المدارس العلمية الممتدة الأثر بحكم حرصها على النجاح في حزمة التعليم والتدريب والتأهيل فإن هذا التاريخ نفسه سيقف مشدوها أمام النتائج الكثيفة التي حققها الأميركيون دون قصد في مجال الإعداد العسكري، وعما قريب سيكتشف العالم أن السلاح الأميركي منتشر بأكثر مما يتوقع الأميركيون، وأن المدرسة الأميركية قد خرجت من الخريجين “البدون شهادات” بأكثر مما خرجت من الذين يحملون شهادات ممهورة بأختامها.
والواقع الذي لا ينكره أحد أن امتداد مظلة العسكرية الأميركية أصبح أوسع من أن تتحمله أذرع المظلة، ولهذا فسوف تتدلي الأطراف البعيدة من هذه المظلة، لأن تكاليفها مطلوبة لمظلات أخرى من قبيل مظلة التأمين المخابراتي.
وما لم تجد الإدارة الأميركية الحالية طريقها إلى فهم الإسلام الحقيقي فسوف تهدر أوقاتا ثمينة وثروات طائلة في الدوران المتكرر حول أفكار اكتشف البريطانيون خطأها من قبل، فقللوا من تكلفة محاربتها بقدر ما هداهم ذكاؤهم، على حين قادت الحماسة والعصبية الفرنسيين إلى محاولة القفز على الواقع، فأصبحوا يدفعون المقابل في كل صباح مستمتعين ببعض الفوائد غير المنكورة.
أما الأميركيون فإنهم لا يزالون يسيرون في مضمار السباق وهم يتجنبون البطء والإسراع معا فيبدون وكأنهم يركضون ويبدون وكأنهم سعداء بهذه الرياضة، لكنهم في واقع الأمر يلهثون وهم يركضون ثم يركضون وهم يلهثون، لكنهم حتى هذه اللحظة يبدون أصحاء يمارسون ترف الرياضة التي لا يمكن أن تستمر ترفا لسبب وحيد لم يصرح به أحد، وهو أن عصر الحروب بالوكالة قد انتهى في اللحظة التي اكتشف فيها ضحاياه الكثر حقيقته، وقد جاءت هذه اللحظة مصادفة على يد بعض العملاء الرعناء.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
لقراءة المقال على موقع الجزيرة.نت اضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا
مقال ولا أروع ككل مقالاتك من مفكر ومفكر بمعنى الكلمة ..أنار الله بصرك وبصيرتك ونلت ما تتمنى وأكثر فى الدنيا والآخرة ورزقت بضم الراء التواضع .. أحبك جداااااا فى الله رزقك الله خطبة فى الأقصى ونور الله بك القاهرة