تاريخ النشر 30/11/2014
لا أنكر أنني قلت أكثر من مرة إنني تشاءمت وتفاءلت حين بدأ الإعلام العربي يردد ما ابتدعته المواقع الكبرى في الإعلام الأميركي والأوروبي متمثلا في مصطلح الربيع العربي كتسمية ما حدث من موجة الثورات العربية المزدهرة التي بدأت في ذروة الشتاء.
لكن هذه النتائج التي سبقت الربيعين -الجغرافي والفلكي بتعريف العلماء- أضافت لربيع 2011 بعدين إنسانيين وسياسيين متضافرين معا، وربما أن تدافع الأحداث أنسانا مثلا أن سياسيين بارزين استطاعوا أن يعودوا إلى بلادهم بعدما كانوا قد فقدوا الأمل في مثل هذه العودة وليس هذا بالقليل.
كان مصدر تشاؤمي هو ما أعرفه من قصور إدراك ساستنا ونخبتنا في مصر عن إدراك المعنى السياسي للربيع بل وللثورة من باب أولى إلى الحد الذي سيدفعهم دفعا إلى البحث عن الصيف بعد الربيع استعجالا للخريف ولعودة الشتاء التي لا يظنونها ولا يفهمونها على أنها “دورية” وإنما يفضلونها ويصورونها “حتمية”.
في المقابل، فقد كان مصدر تفاؤلي هو ما توحيه كلمة الربيع من ظلال تاريخية معاصرة ترسخت منذ ربيع براغ 1968 وغيره، وهو ربيع تكرر حدوثه وازدهاره حتى أنهى ما لم يكن أحد يتصور نهايته من قهر حزبي متعسكر -أو عسكري متحزب- بل وأسقط حائط برلين وأعاد ألمانيا وتركيا معها إلى صدارة أوروبا حتى لو غالطت المراكز والمعاهد نفسها وتوانت عن الاعتراف بهاتين الحقيقتين.
وعلى سبيل المثال فقد كنت ولا أزال أدرك بكل ما يتطلبه الإدراك من وسائل أن تطوير أقدم مؤسسة علمية في العالم -وهي الأزهر الشريف- كان قد أصبح ضرورة ملحة منذ سنوات ولا أقول منذ عقود حتى لا تتسع القضية على التحديد، وكنت أرى أن الآليات المتاحة لن تستطع أن تحقق من أي تجديد مطلوب أو معقول أكثر من 1% من مستهدفاته بل شكلياته.
وقادني الإدراك إلى يقين بأنه لن يتحقق أي قدر من أي أمل مشابه ما لم تحدث ثورة تكشف الغطاء وتسقط الزيف وتزلزل “المآتات” الهيكلية المستندة إلى مثيلاتها من مآتات والساندة لمثيلاتها من مآتات.
وحين عجزت ثورة يناير عن تحقيق مثل هذا الهدف المنطقي الجميل جاهرت في الفضائيات بأن الثورة أصبحت أكثر قبولا للتآمر ومن ثم الفشل، بل تماديت فأشرت إلى أن الأغلبية الساحقة من الذين كتبوا وثيقة الأزهر وحضروا تدشينها كانوا على غير وضوء في لحظة التدشين بما يعني في المدلول الفقهي المباشر افتقاد الطهارة أو الركن الجوهري في ما يليه من فعل إيماني.
ووصل بي الأمر إلى أن أقص قصة عالم جليل تعكر دمه وعصبه على حين فجأة وهو يلقي درسه وسرعان ما اكتشف طلابه بعد التحري أن زميلا لهم دخل حلقة الدرس وهو غير طاهر فلما انصرف عاد للأستاذ تجليه وانشراحه وصفاؤه، وهذا من غير مبالغة هو جوهر ما يعانيه الربيع العربي الذي لا يتوافق بطبعه مع ما قد يفرض عليه من جليد أو حريق.
والواقع أن الربيع العربي قد حقق بالفعل من النجاحات الساحقة أضعاف ما يتصوره أكثر المنحازين له وللثورات العربية، وإنني أوافق كل من يعذرني ويقول: إن مثل هذا التقرير الصارم والبات لا يمكن أن يصدر إلا عن مشتغل بالعلم التجريبي إلى درجة الاكتواء بنار هذا العلم، لكنني أحب أن أضيف إلى هذا وجها آخر للحقيقة وهو أن أي منكر لنجاحات الربيع العربي لا يمكن أن يكون من ممارسي العلم والبحث العلمي إلا اذا كان مغرضا ميالا إلى تزييف الوعي بتزييف الحقيقة وعكس النتيجة ونفي المثبت.. إلخ.
ومن حسن الحظ أن بعض الأمثلة التاريخية تذكرنا بأن تقدم علاجات أمراض العظام والكسور لم يتحقق إلا في مناخ الحرب مع أنها لم تندلع من أجل تطوير جراحات العظام والمفاصل، كما أن أكثر الوسائل التشخيصية فائدة لأطباء القلب الآن وهي “الدوبلر” لم تنشأ إلا لرصد الغواصات الألمانية في أعماق البحار في الحرب العالمية الثانية التي لم يكن من أهدافها ولا من مخططاتها تطوير تشخيص أمراض القلب، لكن التفاعلات الإنسانية والمنطقية والتجريبية كانت كفيلة بأن تهدي للمتفاعلين هدايا لم يكونوا يحلمون بها، وبعض هذه الهدايا تأتي في صورة مفاتيح عبقرية ضاعت وبذلت الجهود من أجل العثور عليها حتى جاءت الثورات وانتكاساتها لتقدم الفرز المجاني العلني الكاشف والدقيق.
وعلى سبيل المثال فقد كشفت الحرب على غزة عام 2014 عن أسرار لا نهاية لها غابت على الفلسطينيين مائة عام، وكانت قابلة للغياب مددا أخرى لولا ما فجرته هذه الرعونة الإسرائيلية في إظهار السعادة بالعملاء.
ومع أن هناك كثيرين يفضلون البندق المقشور على البندق غير المقشر فإن هناك على الطرف الآخر كثيرين لا يستلذون باستعمال كسارة البندق فحسب بل يجدونها مصدر إلهام وعنوانا على أعمال فنية خالدة.
وأذكر أنه لما تعجب كثيرون من إسقاطاتي اللانهائية لتفصيلات ثورة 1919 على مجريات الأمور بعد ثورة 2011 أنني فاجأتهم بما كنت أقول به منذ بداية القرن الـ21 من افتقاد فلسطين في ذلك الوقت المبكر 1918 و1919 وما بعده لزعيم له من الدكتاتورية ما يناظر ما كان لسعد زغلول الذي لم يجد في ذلك الوقت حرجا من أن يخصص -من خلال الجهاز السري للثورة- آلية دائمة ودائبة تجهض جهود حزب وطني منافس كان من قلة الخبرة والحنكة بحيث أصبحت نشاطاته المحدودة بمثابة خنجر متجدد في خاصرة الحركة الوطنية على نحو قد يوصف إنصافا بأنه أخف بكثير مما نراه الآن ونعانيه من قوى -يفترض أنها إسلامية أو حتى وطنية- في مصر وفلسطين وغيرها من بلاد الربيع.
على أننا إذا أردنا تقييما حقيقيا لنجاحات الربيع العربي الفكرية فإن علينا أن ننظر بعمق في ما استطاع تغييره من أفكار الغرب عن الإسلام وشعوبه. وفي هذا الصدد، فقد نجح الربيع العربي في أن يجعل الغرب يعود إلى الاعتراف بحقائق كان ولا يزال يحاول طمسها بطرق خبيثة، وقد تفاوت التعامل الغربي مع الحقائق التي أدركها بحيث أفرز ثلاثة توجهات حاسمة يمكن اختصارها بالتحديد في: توظيف لها والتفاف عليها والتفاف معها.
فأما التوظيف فهو ما بدا للمراقبين من نجاح ساحق في تنمية تخويف أمني ملح أو تحذير استخباراتي متجدد لأنظمة مستندة إلى مشروع إسلامي من الإمكانات الكامنة التي تملكها مشروعات إسلامية بديلة.
ومن حسن الحظ أن كل هذه الجهود ستنتهي لصالح الثلاثة: شعوب المنطقة والأنظمة المستقرة المستندة إلى مشروع إسلامي، والأنظمة الجديدة الصاعدة المستندة إلى مشروع إسلامي جديد لم يصل إلى السلطة إلا بعد الربيع العربي.
وربما يدهش هؤلاء وهؤلاء لكني أقرب لهم المسألة بالموقف العربي من صدمة السيارات اليابانية وما لقيته من دعايات أميركية سوداء، لكنها سرعان ما أصبحت سيارات العرب المفضلة ثم انتقلت العدوى من العرب إلى الأميركيين أنفسهم، ولو قرأنا اليوم هجوم المتأمركين على الطرز اليابانية من السيارات لوجدناه صورة طبق الأصل من الهجوم على الإسلام السياسي وفلسفته في الجر، والموتور العرضي والكبالن، وأنه نظام يؤذي عامود الكردان (هيبة الدولة) وأن تكاليفه أعلى مع قصر عمره! وافتقاده الاتزان والصلابة والتأمين! واستخدامه معادن خفيفة الوزن وقدرته الفائقة على التشكل.. إلخ).
أما الالتفاف على الحقائق فيكفيني للتدليل عليه -وإحقاقا للحق أيضا ومجاملة للأميركيين الذين أكثر من انتقادهم أيضا- أن أقول إن الحكومة الأميركية تلتف على فضلها في دعم الربيع من خلال برنامجها الشهير للتحول الديمقراطي فتزعم أنها استثمرت في الجيش المصري لمثل هذا اليوم أي يوم الانقلاب!
وإحقاق الحق في هذه الجزئية يدعوني للقول إن الولايات المتحدة كانت تستعمل بدالين في قيادة عربة مصالحها: بدال للوقود وبدال للفرامل (الكابحات)، ونظرا لكبر حجم عربة المصالح فقد بدا البدالان متباعدين وكأنهما في سيارتين منفصلتين بينما هما في سيارة واحدة ، لكن الحقيقة أن الذي ضغط على بدال الفرامل في نصف 2013 كان من قلة المهارة والخبرة بحيث تعشقت الفرامل وتعقدت تركيباتها الحديدية وأصبحت في حاجة إلى ما يشبه الفتحة الجراحية لإزالة “تعشيقها” الخطر الذي أوقف أي فائدة ترجى -أو يتوقعها أوباما أو أي أميركي ذكي- من الضغط على بدال الوقود، ومع هذا يلتف الأميركييون حول هذه الحقيقة بالضغط على بدال السير الذي لا يستجيب ولن يستجيب مع وجود الفرامل (الكابحات) كلها في حالة تعشيق مطلقة، وستظل مشكلات أميركا تتفاقم في أماكن أخرى كثيرة طالما هي تلتف حول هذه الحقيقة المبدئية.
أما الحقائق التي تلتف السياسة الأميركية معها (فتؤذي نفسها) فهي حقائق مذهبية وفلسفية وتاريخية وعقدية واجتماعية يصعب على علماء العصر الحاضر وباحثيه أن يلتقطوها بسرعة رغم توافر كل المصادر العلمية والمرجعية في أيديهم ومكتباتهم.
ولست أنكر أني أصبحت أجد اللذة في نهاية أي مناقشة مع أي أميركي من المعتدين بالمؤسسة العلمية الأميركية بأن أرمي في حجره سؤالا من الأسئلة الإشكالية، أستخرجه من حديث المعتد بما في جعبته من حقائق وأترك له الفرصة كي يحل الإشكالية التي أقحمه فيها عن عمد، فإذا هو بعد أسابيع من البحث ييأس ويبحث عن خارطة جديدة غير التي اعتمد عليها فأضلته.
وعلى سبيل المثال، أذكر بعض أخريات هذه الإشكاليات عن علاقات الإباضية بالزيدية والإثني عشرية، وعن علاقات الزيدية والحوثية بالشافعية وعن مرجعية جعفر الصادق عند الجعفريين.
لكم المهم في هذه القصة أن الساسة الأميركيين في أدائهم الحالي يذكرونني بمندوب مبيعات شركة طبية عالمية دفعه طموحه لترك شركته إلى موقع أفضل ماديا وأدبيا في شركة منافسة، لكنه افتقد الذكاء الفطري الذي كان كفيلا بأن يدله على حقيقة أنه لا يجوز له أن يتخصص في المنتج المنافس للمنتج الذي كان يسوقه منذ شهر واحد، ذلك أن في الشركة التي انتقل إليها منتجات عديدة يستطيع أن يتخصص في أي منها فلا يجد نفسه في الوضع “القميء” الذي وجدناه فيه وهو يناقض نفسه بنفسه في كل جزئية كان يقول بها منذ شهر واحد.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
لقراءة المقال على موقع الجزيرة.نت اضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا