تعارف الأطباء على أن بعض العيوب الخلقية ترتبط بوفاة مبكرة وحتمية، فبعض الحيوات (أو الحالات) تتوفى قبل أن تبلغ أسبوعا من العمر، وبعضها قبل أن تبلغ شهرا، وبعضها قبل أن تبلغ شهورا لا تصل للسنة.
وليس في مثل هذا التشخيص (أو توقع المآلات الطبيعية إذا أردنا اللفظ المصطلحي الدقيق) رجم بالغيب ولا اقتراف للكذب على الخالق جل جلاله، بل إن الله سبحانه وتعالى هو الذي هدى الأطباء والعاملين في مجال دراسة التاريخ الطبيعي لهذه الحقائق المستندة إلى فهم دقيق للمتطلبات الفسيولوجية لاستمرار الحياة والبقاء على قيدها.
ويطول الحديث في جزئيات الدورات الدموية والتنفسية والأيضية (تمثيل الغذاء) التي تمكننا من فهم المسارات والمآلات، لكن يبقى الدرس الأعظم هو أن الخالق العظيم لم يحتم نمطا واحدا لبدايات الحياة أو حدودا دنيا لها، لأن القوانين البيولوجية التي خلقها أعمق وأدق بكثير من القوانين الهندسية والصناعية.
أما القوانين السياسية والاجتماعية فإنها -كما يعلم الجميع- أكثر عمقا وتعقيدا وتشابكا، وإن لم تكن ظواهرها المعلنة والصريحة صعبة الفهم والإدراك حتى على متوسطي الذكاء والخبرة بالحياة والتاريخ.
ليس المقصود بهذا الحديث الانقلاب العسكري المصري الأخير على وجه التحديد، وليس المقصود بهذا الحديث هذا الانقلاب وحده، وإنما يتعدى مدلول النموذج البيولوجي ليشمل أكثر من كيان وأكثر من ظاهرة.
ومن الحق أن نسجل أن العامين الأخيرين شهدا جهودا مستميتة (وسنلجأ لهذا اللفظ بعيدا عن المدلولين المتناقضين للفظي الانتحار والاستشهاد) لتغيير الأمر الواقع على الرغم من أن الإدارات السياسية (متمثلة في وزارات الخارجية وما يعلوها من سلطات) لا تكف عن تحريض الإرادات السياسية (متمثلة في الدول بل الجماعات أو العصابات المستولية على كيانات) على الحرص على أن تستبقي أطراف المعادلات الإستراتيجية على ما هي عليه، تسهيلا للامتحانات السياسية الدورية! أو الاستحقاقات الدبلوماسية المتكررة التي افتقدت الإبداع الفكري منذ عقدين كاملين من الزمان.
ومع هذا، فإن تدافع الأحداث وتعاقبها مضى في مسارات لم يكن لأحد من قريب أو بعيد أن يتوقعها على نحو ما حدثت، بل إن كلمة المسارات نفسها أصبحت أكثر عمومية من اللفظ المناسب لوصف مجالات الحركة وهو المسارب لا المسارات، كما أن كلمة المحطات أصبحت أدق في التعبير عن التوالي الزمني من كلمة المراحل، وهكذا ارتدت الإنسانية قرونا للماضي حين ظنت أنها وصلت في مراحل الاتزان الإستراتيجي إلى مرحلة لم يعد أمامها إلا أن تستشرف المستقبل.
وإذا كان هذا هو الجوهر الحقيقي لما حدث في “الماضي الراهن” (أي الذي بدأ ولم يذهب للماضي بعد)، فإن دراسة التوقعات المنطقية لما هو ممكن تصبح أقل أهمية من دراسة التوقعات النموذجية لما هو واجب!
وباختصار شديد، فإنه إذا كان الأمر محدود النطاق قدرة وحركة فليس من الحكمة أن نعالجه بالوسائل التي تعالج الأوبئة استنادا إلى كثرة البؤر الناشئة عنها.
وبلغة المصطلح الطبي فإن بثور حب الشباب المنتشرة في جميع أنحاء الجسد في عدد ضخم من الطلاب ليس معناه أن هناك وباء لحب الشباب قد تفشى وأصبح في حاجة إلى تكثيف إجراءات الحجر الصحي في كل المناطق على نحو ما يفعل العالم اليوم مع المسافرين من هناك إلى هنا. وفي الواقع الصحي فإن معدل انتشار حب الشباب يفوق بالطبع معدلات انتشار وتنامي الأوبئة، لكن حب الشباب ليس وباء على الإطلاق كما أنه لن يشفى بعلاجات الأوبئة.
وربما يقودنا هذا مباشرة إلى استعراض بعض الجرائم الإستراتيجية التي تورطت فيها أجهزة استخبارات عالمية في الشهور الأخيرة، بسبب ثقتها الزائدة في مراكز البحوث.
وربما ألجأ في تشخيص هذه الجرائم إلى أسئلة يلقيها طالب في الرابعة عشرة من عمره على مسامع والده السياسي الأميركي، بادئا بسؤاله عن الحكمة في تدمير وإبادة أهل السنة بما يصب في مصلحة الشيعة الذين يملكون السلاح النووي الذي لا يملكه السنة؟ والفتى يسأل أباه المحنك: أليس الأولى أن نضعف القوي بدلا من أن نقويه ونعده لدور فرانكشتين؟
ويسأله أيضا: ماذا سنستفيد من إضعاف الصديق الضعيف؟ ويسأله ثالثا: لماذا نحارب الديمقراطية التي أنفقنا سنوات عمرنا من أجل التبشير بها؟ ألم نكن نتوقع أنها ستأتي بإسلاميين ووطنيين إلى الحكم؟ ومن قال إن هؤلاء أعداء لنا؟
ويسأله رابعا: هل نضيع عشر سنوات أخرى من أجل صنع أسطورة منطقية جميلة نصنع لها نهاية ناجحة لكنها “لا إنسانية المظهر” على نحو ما فعلنا مع بن لادن بعد سنوات من التعقب بينما كان الرجل منهكا تماما حين قتلناه وهو يغسل سموم كليتيه؟ وإذا كان مَن في مثل حالته قادرا على أن يدوخنا فلماذا لا نجرب أسلوبا آخر أكثر واقعية وأقل تدويخا؟
ويسأله خامسا: هل نحن مسؤولون عن توفير الحياة والحب لكيان ممسوخ كالانقلاب المصري أو المغامرة الحفترية أو المؤامرات اليمنية أو التجارب القاصرة في المجتمعات المالية والنيجيرية والميناميرية؟
ثم يسأله سادسا وأخيرا عن جدوى التلاعب بالألفاظ والكيانات إذا ما كان هذا التلاعب لا يحقق لنا هدفا ولا يقدم لهم حلا ولا ينهي للإنسانية مشكلة؟
ثم يتثاءب السياسي الأميركي وهو يقول لابنه: إن أميركا فقدت في حكومتها الحالية الحكمة والطموح والمبادرة! ويسأل الفتى أباه وأين ذهبت هذه الصفات التي تعلمنا أنها ملك خالص لنا!
ويجيبه الأب بكل أسى: أما الحكمة فقد ذهبت للصين واليابان مناصفة، وأما الطموح فقد اصطاده بهمة ورغبة لاعب الجودو بوتين، وأما المبادرة فقد أصبحت مرة بعد أخرى في يد رجب طيب أردوغان!
وعندئذ يسأل الابن عن الآليات الخاصة ذات الطابع الأميركي المحض والتي عاشت بها أميركا زمنا رغدا: أين الإعلام وأين التمويل وأين المكوكية؟
ويجيبه الأب، إن الأول أصبح مشاعا لكن الجيل الأصغر (من أي قومية كانت) يسيطر عليه بنقاء الفطرة بما يؤذن بنهاية حقبة سيطرة الرسملة عليه.
أما التمويل فقد تحول إلى ضرب من استنزاف! لا إلى ضرب من استثمار، ومن المدهش أن دولا صغيرة رحبت بالبطولة فيه! ولسنا ندري هل ينتبهون أم لا؟
وأما المكوكية فقد تعالت عليها ألمانيا وتعللت بانشغالاتها، وملت منها بريطانيا، وبدأت تتمرد عليها بشدة في مجلس عمومها مرة بعد أخرى، ثم راقصتها فرنسا دون عناية ثم رحبت بها النرويج وبذلت جهدا مستميتا فإذا مصر الرسمية تتهم الوزير الذي تجاوب معها بأنه تخابر مع النرويج! لكنها -أي النرويج- بغير هذا التعسف باتت فيما يبدو مستعدة للتنازل عنها لمن يريد.
قال الفتى الأميركي لأبيه: وماذا عن النجوم الصاعدة في أميركا الجنوبية؟ قال الأب بأسى: إنهم الآن في النجوم الأقل صعودا أصبحوا الأطباء الذين يعالجون تجاوزات الجزارين الذين هم نحن للأسف، وهم في هذا الأسبوع يستقبلون ضحايانا في غوانتانامو ليطببوهم بعزة الطبيب الإنسان المتحضر، بينما نحن منكوسو الرأس ومتخوفون من تقرير التعذيب الذي عرض على الكونغرس بعد طول مطاولة ومماطلة!
تاريخ النشر : ٢٠١٤/١٢/١٩
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
لقراءة المقال على موقع الجزيرة.نت اضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا
مقال روعة جزاك الله خيراً دكتور جودي