ابدأ المقال بواقعتين تبسطان جوهر القضية من وجهتي نظر الميكافيلية والبراغماتية معا.
– يروى أن الرئيس عبد الناصر استقبل مجموعة من زملائه الضباط الأحرار الذين طلبوا لقاءه لأمر عاجل لا يحتمل التأجيل، ففوجئ بهم ينبهونه إلى ما كانوا يظنون أنه لا يعرفه من كراهية جموع الضباط لشخص القائد العسكري القديم الذي اختاره عبد الناصر رئيسا لأركان حرب القوات المسلحة بعد استقرار عبد الحكيم عامر في منصب القائد العام.
صمت عبد الناصر هنيهة ثم نظر إلى أصدقائه الأعزاء عليه واطمأن إلى أنهم جميعا من المخلصين له الذين يستحقون أن يعرفوا السر، وقال لهم: ولماذا نختار لهذا المنصب رجلا محبوبا؟ ماذا نستفيد من حب الضباط له؟ بالعكس إن الضابط الشديد المكروه الذي لا يطاق هو الأكثر فائدة لنا!
– منذ ثلاثين عاما من هذه الواقعة شكا أحد الأصدقاء من كبار أساتذة الطب المصريين من أنه في شهر واحد اضطر إلى تكرار دفع مبلغ لا يستهان به ثلاث مرات ثمنا للنجمة التي تزين مقدمة واجهة سيارته المرسيدس والتي لا يكتمل جمالها إلا بها، وفي كل مرة يعبث أحد المارة بالنجمة فيكسرها فتصبح غير صالحة نهائيا.
وفي ذلك الوقت كانت النجمة المتاحة هي الأصلية فقط، فلم تكن الشركات قد أتاحت نسخها المقلدة التي لا يزيد ثمنها على 10% من نجمة مرسيدس المصنعة في مصانعها، وأردف صاحبنا على عادة الأساتذة فقال إن الـ”بي إم دبليو” -وكان لا يحبها- تفوقت في هذه الناحية حين ثبتت نجمتها أو علامتها في الغطاء الأمامي فحمتها من شقاوة أطفال القاهرة! فما كان من أحد الأطباء الشباب إلا أن قال للأستاذ إن المرسيدس أذكى بكثير لأنها تستفيد من كل شقاوة فتبيع نجمة جديدة، بينما يغيب هذا البند تماما عن قائمة مكاسب الـ”بي إم دبليو”.
مرت الأيام وازدهرت الصناعات المقلدة للإكسسوارات إلى الحد الذي يمكن معه أن نقول إن المرسيدس الجديدة أصبحت تأخذ كثيرا بمنطق النجمة الثابتة فلم يعد هناك هذا الحجم المربح من بيع إنتاج خط النجمة الأصلية.
باختصار شديد، إن أداء الانقلاب العسكري في مصر لا يخرج عن هذين المفهومين، بل يكاد يعلن بكل وضوح أن النجاح السياسي مرفوض مرفوض، وأنه يستعيض عنه بحملات علاقات عامة أو حملات تسويق متجددة حتى وإن كانت متناقضة، وفي الوقت ذاته فإن الانقلاب حريص على أن يؤكد بكل الوسائل جوهر سياساته الاقتصادية والاجتماعية وهي تدور ثم تدور حول فكرة أن النجاح الاقتصادي مستحيل.
وقد تعددت الإشارات والأمارات الدالة على أن الانقلاب يعتنق سياسة الفشل الأكثر فائدة، وتعززت هذه الإشارات بتصريحات شهيرة تخطت حدود ما يمكن وصفه بأنه زلات لسان، فالنجاح السياسي الذي يتمثل في الخطو نحو الديمقراطية أو في طريقها لا يعدو في نظر قائد الانقلاب أن يكون سلوكا معطلا للإنتاج وليس في مصلحة البلد ولا مصلحته هو ولا مصلحة المواطنين.
ومع أن القائد قدم نفسه للعالم وصورها في بداية الانقلاب على أنه جاء مدعوما بالتظاهرات التي وصلت إلى أرقام غير مسبوقة سينمائيا فإن موقفه الآن أصبح منحصرا ومحصورا ومحاصرا عن عمد بين أربعة جدران صلبة ومتصلبة وواضحة وضوح الشمس.
أول هذه الحوائط وأخطرها: أنه عبر بأقصى شفافية -وأقصى رفاهية أيضا- عن أنه يؤمن بأنه غير مدين لأحد، فهو الحابس للرئيس المنتخب الذي وصل للرئاسة بالديمقراطية، وهو المنقلب عليه لأنه هو القوي والمسيطر على جنوده وقادته وهو الفاض لاعتصامات رابعة وغيرها، وهو “المتدستر” لما لا حاجة له إليه من دستور اصطناعي، وهو الممثل المتغير الملامح لكل الأدوار التي تتطلبها المسرحيات المضروبة أو المصكوكة، ويؤمن أيضا بأن كل ما عداه هو نفسه باطل، وهو يؤمن أيضا بأنه كان ولا يزال بمثابة عنصر النجاح الفعلي والوحيد لما حدث من سلب السلطة ووجود للانقلاب.
وثاني هذه الحوائط هو أن سلطة حكم مصر حق موروث ومورث للعسكر لا لغيرهم، وكل الشكليات التالية للوصول إلى السلطة بقوة الديمقراطية متمثلة في الشعب لا ولن تغير من هذه الحقيقة الجوهرية شيئا، بالمقابل أيضا فإن كل الشكليات التالية للاستيلاء على السلطة بقوة السلاح لا تضيف إلى هذه الحقيقة الجوهرية شيئا، فالديمقراطية ليست إلا ديكورا شكليا ظاهريا لا قيمة له، لأنه ببساطة غير أساسي ولا تأثير له على الدبابة.
وثالث هذه الحوائط أن المظاهرات أو التظاهرات كانت وسيلة لإخراج سلف قائد الانقلاب من السلطة، لكنه لن يسمح لها بأن تخرجه هو أيضا تحت أي ظرف من الظروف حتى لو اقتضى هذا قتل الآلاف أو سجن عشرات الآلاف أو نفي مئات الآلاف، وتكرار المواجهات العنيفة كل يوم وليلة.
ورابع هذه الحوائط أنه لا يؤمن بتاتا بحرية التعبير ولن يسمح بها تحت أي ظرف من الظروف، لأنه في عقيدة نفسه أو بالأحرى في تصويره لنفسه يعرف ما لا يعرفه الناس عن أنفسهم وعن مصلحتهم وعن استحقاقهم، أو بالأحرى يعرف ما لا يعرفونه عن عدم استحقاقهم للديمقراطية.
ويرتبط بهذه المحاور محور مواز في معاملة الخارج يتمثل اختصارا في احتقار شديد وغير معلن للمجتمع الغربي يتوافق بل يتطابق مع ما هو معروف للعامة من عقيدة ثابتة عند كثير من الطبقة البعيدة عن الثقافة في المجتمعات الشعبية القاهرية، وهي عقيدة غريبة تذهب إلى القول إن المجتمعات الأوروبية لا تقوم أخلاقها إلا على الصور المتعددة والمتنوعة من العهر السياسي والاقتصادي والأخلاقي، ومن ثم فلا خوف من هذه المجتمعات الغربية ولا من مسؤوليها مهما عظموا على مثله من الحكام الأشداء المتمتعين بالسادية! لم لا وهو الغني القادر على تقديم الرشوة مما يتمول به يوما بعد يوم دون حاجة إلى مد يده إلى أي رصيد تكون مما استغل وضعه في الوصول إليه وتملك التصرف فيه.
هكذا ينظر قائد الانقلاب إلى قدرته على استدراج المجتمع الغربي إلى تأييده والاعتراف به وبهمته في القضاء على الإسلام السياسي، وكأن الإسلام السياسي وباء يمكن أن ينحسر بالسلاح، ومن العجيب أن وباء شهيرا كالكوليرا أثبت على مدار دروات انتشاره أن كل اللوجستيات من نقل وعزل لم تقدر على حصاره إلى أن عالجه التقدم الطبي الحقيقي، لكن الانقلابي يرى نفسه وفعله استثناء من حركة التاريخ.
وهكذا فإن الانقلاب لا يبحث عن نجاح سياسي حقيقي على أي مستوى لا في الداخل ولا في الخارج، وإنما أقصى ما يمكن أن يسمح به هو أن يلتقط مصورو وكالات أنباء -يصفهم نظامه بأنهم مختارون ومرحب بهم ومكافؤون مقدما- صورا لطابور انتخاب وهمي، وأن يحضر انقلابي ما -مهما كان- مؤتمرا في الغرب يتحدث فيه عن نجاح التحول الديمقراطي.
وربما يقودنا هذا إلى المحور المتعلق بعدم الرغبة في تحقيق أي نجاح اقتصادي أو إنفاذ أي إصلاح اقتصادي أو تشجيع أي حل اقتصادي، وفي هذه الجزئية تبدو تصريحات قائد الانقلاب أقرب ما تكون إلى الأقوال المرسلة التي يحترفها آكلو أموال اليتامى من الذين لا يجدون غضاضة في الظهور وهم يلبسون الحرير من أموال اليتامى مقابل السماح بأن يلبس اليتامى الذين هم أصحاب المال الحقيقيون الخيش الممزق.
ومع هذا فإنهم لا يستحون وهم يواجهون العالم بهذه الصيغة الفجة من أكل أموال اليتامى بالباطل حتى أصبحت صورة الشعب المصري في ذهنيات العالم أنه شعب يؤكل كل ساعة على موائد الانقلاب، ولم يصل بعد إلى أن يتغذى أضعف تغذية أو يتمون بأفقر تموين مما قد يتاح للأيتام على مائدة اللئام.
وليس أدل على هذا مما اتخذته الحكومة الانقلابية من شراء غاز طبيعي من روسيا لتوفره للقوى الرأسمالية المتحالفة مع الانقلاب بثلث ثمنه على أن يدفع الشعب اليتيم من موازنة الدعم هذا الفارق الضخم، وذلك في الوقت الذي لا تبذل فيه حكومات الانقلاب أي جهد في توفير الطاقة الكهربائية التي تتوقف عليها حياة جميع الشعب.
ويتواكب هذا مع أحاديث مكرورة وممقوتة عن وسائل وهمية في القضاء على البطالة بعربات الخضار، وهي وسائل ناطقة بتخلف الفكر الانقلابي عن إدراك طبائع الحياة المعاصرة والمستقبلية.
ومن الملحوظ أن هذا الحديث القاصر عن توفير ألف فرصة عمل ليس مقصودا لذاته، وإنما لوضع الشعب اليتيم أمام الأمر الواقع باستمرار الفقر، لأن الفقر المتتابع يظل في عقيدة منظري السلطة ومخططي الانقلاب بمثابة الضمان الأكثر ثقة لمنع الثورة ثلاثين عاما قادمة، وهم يستهدون في هذا بتجربة الزعيم جمال الذي بكى بعض الكتاب الانقلابيين عند وفاته باعتباره من كان يطعمنا ويسقينا.
تاريخ النشر : ٢٠١٤/١١/٢٣
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
لقراءة المقال على موقع الجزيرة.نت اضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا
يمكنكم الاستماع إلى المقال عبر قناتنا الصوتية من هنا
مما يحزنني على فقد مبارك انه كان يبيع الدوله بأغلى مما يبيعه السيسي
راح وخد الغاز معاه
تفتكر يادكتور انه ممكن يدلدل السلم للسيسي
اللهم عجل بهلاك العسكر