تاريخ النشر : ٢٠١٤/٢/٧
ربما كان العنوان الأكثر مساسا بالواقع وتماسا معه هو هل يمكن إلغاء ثورة 25 يناير في مصر؟
ذلك أن الحديث الصريح عن هذه الأمنية فاق أي حدث مواز في أي بلد آخر من بلدان الربيع العربي.
ومن ثم، فإن الآمال التي تعلق بها الكثيرون من رموز الثورة المضادة للربيع العربي كله أصبحت تركز بصورة ملحوظة على إمكانية النجاح في مصر، ومن ثم تتساقط الإنجازات الربيعية في بلدان الربيع العربي الأخرى تلقائيا.
بيد أن عمومية القضية تبقى أقوى بكثير من خصوصية الحالة، حتى لو أن انقلابا قد وقع في مصر وصرح بما لم تصرح به الثورات المضادة الأخرى من رغبة قوية في إنهاء “ثلاث سنوات من محاولات إسقاط الدولة”، وهو القول الصريح الذي صدر على لسان وزير الدفاع قائد الانقلاب المصري.
ونحن نفهم هذا المعني أيضا من كتابات من يسمون أنفسهم -أو يظنون أنفسهم- خبراء في العلوم السياسية، حيث يذهبون -هم وكل الذين وضعوا أقلامهم في خدمة السلطة العسكرية- إلى القول المكرر إن هناك دوافع كثيرة لإنجاز هذا الذي يسمونه الحفاظ على الدولة، والذي نسميه نحن والعالم إلغاء الربيع العربي.
ونحن ندرك بكل وضوح مدى حرص هؤلاء على أن يصوروا مهمتهم بالمقدسة، وأن يصفوا عملهم بالمشروعية، وهم حريصون -من ثم- على أن يسموا ما يفعلونه من ثورة مضادة كاملة المعالم بأسماء أخرى تبعث الرعب في النفوس والزيف في الحقائق، وهو أمر مفهوم و متوقع.
كذلك، فإننا نفهم من هذه الكتابات أن أنصار الثورة المضادة للربيع يرون أن تحقيق مثل هذا الهدف هو أمر مشروع وأن نجاحاتهم فيه قد تخطت القيمة (أو العتبة) الفارقة الكفيلة بإثبات النجاح على نحو أو آخر.
بل إننا نفهم من بعض هذه الكتابات بعد تجنيبها من سعار الحمى المفاجئة أن مصر خسرت بسبب ثورة 25 يناير ما لا يمكن استعادته، وأنه كان من الممكن استعادة بعضه، ونفهم أيضا كل هذا الذي يقال الآن بجدية من أقوال كانت مثارا للسخرية من قبيل ما رددته من سمت نفسها الشيخة ماجدة ببركاتها عن التعاون المشترك بين جهات متنافرة من قبيل أصابع المخابرات الأمريكية وأصابع التخريب، وعن اتفاق حماس وإيران وإسرائيل… إلخ.
ونفهم أيضا كل محاولات التشويه التي تلحق بكل من لا يزال حريصا على البقاء في ركب الثورة، فضلا عمن كان في القطار يوم قيل عن القطار إنه ثورة.
مع كل هذا الفهم ومع كل الاعتراف بما استطاعت الثورة المضادة تحقيقه على أرض الواقع، بدءا من الانقلاب ومرورا بالمذابح الدموية والمجازر البشرية والمحارق الحديثة، وبالدستور وقانون التظاهر وقانون الإرهاب وانتهاء بإعلان قائد الانقلاب ترشيح الشعب له رئيسا للجمهورية حتى يكتمل معنى الثورة الشعبية، وينتفي معنى الانقلاب، الذي هو بكل المقاييس والمعالم انقلاب.
لكننا مع كل هذا الفهم والاعتراف بجهد القوة المضادة نرى حقيقة ساطعة أخرى، وهي أنه يستحيل أن ينجح أحد في إلغاء ثورة 25 يناير أو إجهاض آثارها ونتائجها ووجودها وروحها، وربما كان من الإنصاف للثورة ولمصر وللحقيقة أن نسارع إلي بيان الأسباب التي تدفعنا إلى مثل هذا التقرير الحاسم.
أولا: لم تقم ثورة 25 يناير على نظام قابل للحياة والاستمرار، وإنما قامت على نظام كان قد استنفد أسباب حياته وأغراضه، وكان في واقع الأمر قد انتهى من حيث الدينامية الفاعلة وإن بقى بحكم الزمن جالسا على كراسي تعوّد الجلوس عليها.
ونحن نستطيع أن نرى مدى صدق هذا الحكم على الأمور بطريقة عملية إذا ما فتحنا بطريقة عشوائية ثلاث صحف في ثلاثة أيام عشوائية من الأيام الأخيرة، أو فلنقل السنة الأخيرة من عصر مبارك (يناير/كانون الثاني 2010 – يناير/كانون الثاني 2011)، وعندها سنكتشف بكل وضوح أن النظام لم يكن قد تبقي له وجود حقيقي في السياسة ولا حتى وجود رمزي، فالمشكلة -أي مشكلة- تثور وتتفاقم دون داع وكأنه ليس هناك نظام ولا حكومة، والقضايا ترحل والاعتصامات تتكرر، والردود السخيفة تتكرر هي الأخرى.
وهكذا، فإن المطالعة الدقيقة -حتي بعد فوات الأوان ومرور الوقت- تكشف لنا أنه لم يكن هناك أي مبرر لاستمرار نظام ما بينما النظام نفسه لم يكن يدلل على حياته ووجوده بأي دليل، بل إن رئيس الوزراء -الذي كان يتولى المنصب في ذلك الوقت- كان قد استمرأ الوجود الشكلي في منصبه، بل بدأ يمارس طقوس الحياة مع زوجة جديدة بعد فترة قصيرة من فقدانه شريكة عمره، وقد تأكد هذا للجميع حين رُزق الرجل بعد عشرة شهور من الثورة بابنة (كان في ذلك الوقت سجينا محكوما عليه في إحدى قضايا الفساد).
وليس من باب التزيد أن نشير إلى واقعة كنت وما أزال أعتبرها بمثابة بلورة واضحة للاندفاع إلى الثورة، وهي واقعة ركوب وزير التربية والتعليم (الجديد وقتها) رأسه وتصميمه على أن يحول مدارس اللغات في الإسكندرية إلى مدارس تجريبية رغم أن البرلمان ومجلس الدولة حكما بعكس قراره، ورغم أن المتضررين من قراره السلطوي كانوا هم رجال الدولة العميقة بكل ما تعنيه الكلمة من تجمع يضم رجال مؤسسات القضاء وأمن الدولة والشرطة والمخابرات والجيش والبحرية وغيرها.
لكن رغبة الوزير الجديد المحمومة في إثبات الذات لم تكن تعبأ بما قد يترتب على هذه الرغبة من كسر عمود من أعمدة نظام متهالك قائم على هذا الوضع غير القانوني في رأي الوزير المندفع.
وهكذا، فإن سقوط مبنى المحافظة في العاصمة الثانية لم يكن نتيجة فعل الثورة أو التخريب أو الزمن فحسب، بل كانت واقعة السقوط والزوال والاحتراق نتيجة حتمية أيضا لسلوك اللامبالاة من جانب من يفترض منهم أن يكونوا مبالين تماما بحكم كونهم موالين، لكن اللامبالاة جعلتهم يبدون وكأنهم لا موالين أيضا.
وتلك سمة من السمات البارزة في لحظات انتهاء النظام -أي نظام- حين ينفض أقطاب النظام أيديهم من كثيرين من الصغار الذين فرضوا أنفسهم على النظام فيبدو الأمر وكأنهم ينفضون أيديهم من النظام نفسه.
وهنا أتوقف لأقول إن قرار الثورة في 2011 لم يكن من خارج النظام فحسب ولكنه وجد أصداء مؤيدة داخل النظام نفسه.
وليس معنى هذا أنني أقول بنظرية الطابور الخامس لكني أقول بنظرية تعتمد على أهمية عناصر التحلل الداخلي التي قد تدعم المؤثرات الخارجية من حيث لا يتوقع أحد وجود هذا المؤثرات.
ثانيا: لم يكن هناك بديل معقول لثورة 25 يناير، فقد انسدت الآفاق لدرجة بات من الصعب إمكان فتحها مرة أخرى إلا بثورة.
ومن المؤسف أن كثيرين من الكتاب يتجاهلون الآن هذه الحقيقة المؤكدة، وربما كان من المهم إلقاء بعض الضوء على هذه الجزئية حتى تتضح الصورة التي لا تزال غائمة في أذهان بعض الباحثين الغربيين حول الربيع العربي بصورة عامة.
فعلى صعيد العمل النقابي -مثلا- كانت النقابات قد تجمدت تماما على وضعها الذي كانت موجودة عليه منذ عشرين عاما، وذلك بحكم تشريعي قاس على الديمقراطية أصدره مجلس الشعب.
وقد صدر هذا الحكم على هيئة قانون سُمي بالقانون رقم 100 الخاص بالنقابات المهنية، وبمقتضى هذا القانون -الذي كان واضحا تماما في سطوته وقسوته- فقد تجمد حال العمل النقابي على نحو ما كان عليه حين صدر القانون، فلم يعد هناك مجال لحركة مناسبة ولا انتقال السلطة في النقابات نفسها، وإنما أصبحت النقابة واقفة متوقفة متجمدة جامدة على نحو ما انتهت إليه الأمور قبل صدور القانون.
إذ لم يعد من السهل إجراء الانتخابات ولا تحريك المياه الراكدة في النقابات، وهكذا أصبح أقصى نجاح هو أن تستطيع نقابة ما تنظيم رحلة عمرة أو أن تنظم معرضا ميسرا للسلع المعمرة لأعضائها للحصول على ثلاجة أو غسالة بالتقسيط، وهكذا انغلق باب التعبير عن الرأي في السياسة العامة أو المهنية أو الوظيفية.
وقد حدث وضع شبيه بمثل هذا الوضع في اللجان النقابية لعمال الشركات، وتحول رؤساء اللجان النقابية إلى أعضاء في مجلس الإدارة في الشركات القابضة والتابعة على حد سواء مع ما يرتبط بهذه العضوية من مميزات مادية محسوبة ومنظورة، وتكرس هذا الوضع في السنوات الأخيرة من عصر مبارك.
وأصبح الحفاظ على مقاعد النقابات العمالية بمثابة حياة أو موت للذين شغلوا هذه المقاعد واستفادوا من وضعهم الناشئ الجديد، بينما ضاعت -بالطبع- قضايا السياسة والتمثيل السياسي وحقوق العمال والتمثيل العمالي وغيرها، وانسد الأفق على نحو ما ذكرنا.
وقد امتد هذا النمط النشط في تعقيم مسارات العمل السياسي حتى نجح في كل الميادين، وكانت المجالس المحلية هي أهم هذه الميادين بالطبع، مما ضاءل من فرصة الآمال السياسية أو المستقبلية في أي تنمية محلية أو أي تطوير محلي (محدود وممول ذاتيا) للبيئة أو المجتمعات الإقليمية.
ومع أن بعض هذه الميادين التي استدعت قيام ثورة 25 يناير 2011 لا تزال تعاني مما كانت تعاني منه قبل 25 يناير، فإن هذا في حد ذاته يؤكد ما يلي:
الأول: هو أن ثورة 25 يناير كانت ضرورة، وبالأدبيات الماركسية كانت حتمية تاريخية.
الثاني: هو أن ثورة 25 يناير غير قابلة للإلغاء لأن أسبابها كانت موجودة ولا تزال موجودة أيضا.
ثالثا: تؤكد كل السياسات التي اتبعها الانقلابيون ومن قبلهم قادة المجلس العسكري في الفترة الانتقالية على حقيقة مهمة، وهي أن مسار الثورة أصبح حاكما لكل خططهم وإستراتيجيتهم بحيث أصبح الهدف الأول والأخير للفترتين (فبراير/شباط 2011 – يونيو/حزيران 2012) ثم (يوليو/تموز 2013 وحتى الآن) هو ألا تحدث الثورة مرة أخرى.
ويعطينا هذا التشخيص فكرة مهمة عن حقيقة متجاهلة وهي أن عقول ونفوس هؤلاء الذين يتحكمون بالأمور لا تخرج عن نطاق التفكير في أن الثورة حدثت وأنه لا يمكن إلغاؤها، وبالتالي فإنه لا بد من محاربتها ومقاومتها حتى لا تتكرر مرة أخرى، ذلك أنها في نظرهم إذا تكررت تكرست وتأكدت، لكنه إذا مُنع تكرارها تصبح أقرب لأن تكون غلطة يمكن الاعتذار عن وجودها على نحو أو آخر.
ونحن نرى كل سياسات المجلس العسكري (فبراير/شباط 2011 – يونيو/حزيران 2012) ثم الانقلابين ( من يوليو/تموز 2013 وحتى الآن ) تقاوم إلى أقصى ما يمكن فكرة مشروعية الحشد الذي انتهى بسقوط مبارك يوم 11 فبراير/شباط.
ولهذا، فإنها كانت ولا تزال ترى في رابعة -رغم بشاعة جريمتها- المنقذ الوحيد الذي أنقذها من السقوط على نحو ما سقط مبارك، ومع أن هذا غير صحيح جملة وتفصيلا، فإنه بات هو الجوهر المسيطر على خطط وعمليات قيادة القوات المسلحة بحيث أصبح النصر في نظرها هو النجاح في فض الاعتصام أيا ما كان موضعه.
وسيقف التاريخ العالمي والإنساني متعجبا ومستغربا ومدهوشا أمام مثل هذا التعريف القاصر أو المتخلف للنصر أو النجاح العسكري، لكن فلسفة التاريخ من ناحية أخرى ستجد في هذا السلوك ما يدل بكل وضوح على أن الثورة التي حدثت في 25 يناير غير قابلة للإلغاء حتى وإن بدت عند العسكريين غير قابلة للتكرار، ولأن في تكرارها هزيمتهم المحققة.
وربما كان هذا هو أدق وصف لهذا الوضع الاستثنائي المعقد في تركيبته الفكرية والبسيط في تركيبته الإنسانية أو الشيطانية الذي تطورت إليها الأمور حتى صارت على نحو ما نراه الآن.
وليس من قبيل المبالغة القول إن هذا الوضع الغريب في شذوذه المختلق بدون داع حقيقي، هو آخر ما فكر فيه مؤرخ أو محلل سياسي قبل مطلع 2011 وربما قبل مطلع 2014، لكن هذا هو الحق وهو الحقيقة بدون تنميق ولا تزويق.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
ولقراءة المقال على موقع الجزيرة.نت اضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا