تاريخ النشر : 24/10/2014
يكاد المراقبون للسياسة الأميركية يجمعون على أنها أصبحت حاجة ملحة (وليست حاجة ماسة فحسب) إلى إعادة النظر في صواب وجدوى وصدقية عدد كبير من المسلمات التي استقرت تماما في أدبيات وبحوث وورش عمل مراكزها البحثية ومعاملها الفكرية.
وبالطبع فإن المسلمات الجديدة (أو الأحدث أو البديلة أو المطورة) لا يمكن أن تكون بقوة أو سمعة المسلمات القديمة التي تراكمت مبررات القول بها ومسوغات الاقتناع بها عبر الزمن بل وعبر نجاحات سابقة.
أولى هذه المسلمات تغلغلت تماما في الوجدان السياسي الأميركي (وبأكثر مما طغت على لغة الأدبيات) مقررة أن الجهاد الإسلامي مرتبط بأهل السنة ومتناقض مع عقيدة الشيعة، وبلغ الأمر في تغلغل هذه الفكرة حد القول بأن الفارق الأساسي بين السنة والشيعة هو الجهاد، وهو قول هراء لا يرتضيه أي شيعي لنفسه (بل لا يرتضيه أي إلحادي من الذين ورثوا الإسلام عن آبائهم).
وقد وصلت التفسيرات العميقة لهذه المسلمة الجذابة سيكولوجيا إلى حد القول بأن أهل السنة يسلكون سبل الجهاد من أجل هدف جوهري هو النعيم الأخروي بما فيه من ملذات حسية أبرزها الجنس والنساء على حين أن أهل الشيعة لا يعوزهم ولا ينقصهم الاستمتاع بالمرأة في أي وقت من خلال آليات متعددة أبرزها نكاح المتعة.
ومن المؤسف أن الترويج لهذا الأمر بلغ حد استضافة أميركا الرسمية لجهادي سابق ليس له مهمة في أميركا إلا أن يكرر الترويج لمثل هذه الدعاوي التي لا يرضاها شيعي لنفسه ولا يرتضيها سني لشيعي.
ولهذا فإن الأمر يصبح مهددا بكارثة لأميركا نفسها إذا لم تنتبه عقول أميركا إلى حقيقة وطبيعة تحمس الشيعة للجهاد كفكرة إنسانية أو للجهاد الإسلامي كمكون سامي المقام من مكونات الدين الإسلامي، وهو حماس قوي متأجج لا يقل عن حماس أهل السنة ومن ثم فإن الولايات المتحدة قد تجد نفسها فجأة في مواجهة لا نهائية (وليست متجددة فحسب) مع الإسلام عقيدة وشعوبا وشبانا وجماعات جديدة وصغيرة، وسوف تبدأ هذه المواجهة وتنتهي بعض فصولها بينما تبقى تقديرات الموقف الأميركي أقرب إلى التشوش منها إلى التقريب ولا نقول الوضوح الجازم الذي هو الأمر المتوقع من القرار الأميركي بل والمعهود من قبل.
ثاني المسلمات التي أصبحت مسيطرة بالباطل والإعلام واللا تجربة على أدبيات الفكر الأميركي أن كبار ضباط الجيوش العربية ما زال من الممكن لهم أن يلعبوا دورا في إنفاذ وتنفيذ السياسات الأميركية العميقة وتلبية متطلباتها أذا ما تم تمكينهم من كراسي القرار السياسي (ولا نقول كراسي الحكم).
وقد بنيت هذه المسلمة عبر نجاحات متكررة ومتوالية حققتها الولايات المتحدة مع جيل حسني الزعيم وسامي الحناوي وأديب الشيشكلي وجمال عبد الناصر وحتى جيل صدام حسين وحافظ الأسد ومعمر القذافي.
ومن الطريف أن الأجهزة الأميركية المسؤولة عن الدولة العميقة ركنت إلى إمكانية استمرار نجاح هذه الفرضية القديمة، ولم تحاول خلق آليات أو ميكانزمات جدية لصناعة متعاونين جدد من أجيال أخرى مختلفة، وترتب على هذا بالتبعية أن أجهزة الدولة الأميركية الحالية ومراكز صناعة القرار فيها وجدت نفسها على سبيل المثال في حيرة مع جدوى وطريقة تنصيب العسكريين السوريين التقليديين خلفا لبشار الأسد، ولم تستطع إسرائيل بكل مخابراتها واستطلاعاتها وعلاقاتها أن تشير حتى ببديل نصف مضمون لبشار الأسد والعلويين.
وبصفة خاصة فقد كانت سبيكة الناصرية النصيرية عصية على الاستمرار بقدر ما كانت عصية على الاستنساخ مع أنها سبيكة غير شرعية في ظاهرها وإن كانت مألوفة وأليفة في جانبها الباطني، وهكذا أجبرت السياسة الأميركية رئيسا مفعما بالأمل والحيوية والشباب مثل أوباما على أن يتخذ موقفا جامدا وعقيما لم يكن الزعيم السوفياتي بريجينيف نفسه وبكل جموده ليرضى به أو يوافق حتى على أن يصدر في عهده.
ولم يكن هناك تفسير لحالة التراجع أو النكوص اللا مرجعي إلا تفسير واحد وهو افتقاد أو عوز المرجعية الكفيلة باقتراح البديل، وحدث بعد ذلك ما هو أسوأ أثرا على الولايات المتحدة نتيجة الاشتراك في التآمر في مصر ثم تشجيعه في ليبيا ثم الترحيب به في اليمن. وهكذا تحولت صورة قيادات الجيوش العربية في مناقشات الكونغرس إلى أنها استثمار لا يمكن لأميركا التي استثمرت فيه أن تتنازل عن الإفادة منه حتى لو كان الضرر من الاستثمار أكبر من الفائدة.
وبعبارة مجازية فإن المنطق الإستراتيجي الأميركي تحول في منطلقاته الدافعة إلى ما نسميه في الطب بعلاج الأعضاء بدلا من أن يكون العلاج (الموصوف ثم الممارس) علاجا للمرض المشخص حتى لو كان المرض من الحالات ذات المظاهر السريرية المتعددة.
ومن العجيب أن هذا المعنى الذي كان عابرا تماما أصبح بحكم هشاشته واختلاف الظروف الحضارية والمعلوماتية بمثابة عقيدة جديدة لا بد من الدفاع عنها حتى لو كانت عبارات الدفاع وأسانيده كفيلة بانهيار الأساس البراغماتي الذي تحترمه أميركا رغم براغماتيته، وهي إشكالية منطقية مضحكة، فقد أصبح منطق وزير الخارجية الأميركي كيري يقول بوضوح اضطراري: إننا الآن أصبحنا نؤمن بالبراغماتية كغاية في حد ذاتها حتى وإن لم يتحقق منها شيء، أي إننا براغماتيون لأجل اللا مبدأ وليس لأجل المصلحة.
ولا جدال في أن التحليل العلمي لمضمون الخطاب الأميركي في الشهور الأخيرة ينطق بهذا العجب السياسي بوضوح، ومع أن المنسحقين أمام الإمبريالية يصفقون للانتهازية فإن الموقف داخل أميركا نفسها أصبح جد مختلف وأصبح الانطباع الداخلي تجاه ما هو معلن من مواقف أميركية أن منطق اللحظة ليس إلا منطقا مستفزا لفتيان أميركا وشبانها المقبلين عن قريب على التصويت في انتخابات متعددة ما بين رئاسية وبرلمانية وحكام ولايات.
تتعلق المسلمة الثالثة التي أصبحت بالغة الإيذاء للفكر السياسي الأميركي بفكرة عملياتية على وجه التحديد وهي زيادة قابلية المؤسسات الرسمية الأميركية لترديد المزاعم الباطلة وتصويرها على أنها حقائق، وذلك من أجل تبرير قرارات صدرت وثبت خطؤها، ومن الطريف أن هذا السلوك البعدي (أي الذي يعتمد على التبرير اللاحق) أضحى لا يستحي من تأخره ولا من مبالغاته.
ويمكن لنا أن نسمي هذه المسلمة بمسلمة إمكانية قبول الشعوب من الديمقراطية بالشكل وحده.
والأمثلة كثيرة أبرزها أن أميركا تعرف بوسائل متعددة أن رجل أعمال مصريا أسس سبعة أحزاب بأسماء مختلفة، من باب الاستثمار السياسي وحماية المصالح الرأسمالية، وتعلم المؤسسات الأميركية علم اليقين أن الشعب المصري يعرف هذا ويعرف سوابق هذه التقنيات الشكلانية.
ولا يزال في وسع أميركا أن تعيد اختبار ما تعرفه مراكزها الاستخباراتية عن مثل هذه الأحزاب الكرتونية، لكنها بدلا من ذلك مضت في التصديق والترويج والاستجابة حتى بدا وكأن راعي هذه الأحزاب السبعة أصبح هو القوة الحاكمة والتحكمية في السياسة الأميركية تجاه مصر وذلك للدرجة التي شاع فيها أنه هو الذي اتفق مع شخصيات نافذة في الكونغرس نفسه على أن يرسل وفودا متعاقبة من نجوم غير سياسيين (كان منهم ممثلو سينما وموظفو علاقات عامة محليون) يطلبون فيها من سلطة أميركا أن تؤمن وتغطي قيام قائد الجيش بانقلاب عسكري.
ومع أن هذه الدعوى (ولا نقول الحقيقة) تم تداولها على نطاق واسع فإن الولايات المتحدة لم تشأ أن تعلق بإثبات أو نفي، بما بدا في النهاية وكأن الولايات المتحدة تريد أن تصدر فكرة أن هذه الدعوى التي ندعيها صادقة وأنها على استعداد أن تسلم مصر لعائلة تنوب عن أميركا في حكمها.
ومع أن آلية إنشاء الأحزاب ونشاطها أصبحت من البدهيات في العالم كله فإن النظم الشمولية المصرية المعادية للمنطق والقانون حولتها إلى نصوص شكلانية تنتج أحزابا كرتونية تؤدي نشاطات وهمية تحاول بها أن تشوش على الأحزاب الحقيقية ذات الثقل السياسي في صورة لا يتخيلها إلا عقل شيطان.
والأمر في هذا شبيه بما لا يمكن حدوثه من أن تصدر صحيفة أميركية وقد خصصت لرأي الرئيس الأميركي الحالي ربع صفحة بينما أعطت الأرباع الثلاثة الباقية لثلاثة من شخصيات مر بخاطرها أن تترشح للرئاسة دون أن تحصل علي أية أصوات ولو على أصابع اليد الواحدة، ثم تقفز الصحيفة على المنطق كي تقول إن ثلاثة أرباع الكتلة المستطلع رأيها ضد الرئيس الأميركي.
فما بالنا أن في مصر سبعة أحزاب يديرها شخص واحد وعشرون حزبا آخر لثلة قليلة من أصحاب المصالح الضيقة بينما الأحزاب الحقيقة لا تزيد عن خمسة فقط إن لم تكن ثلاثة فقط.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
ولقراءة المقال على موقع الجزيرة.نت اضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا