أبدأ هذا المقال بثلاث قصص موحية تعطينا فكرة شبه كاملة عن موضوعه :
القصة الأولى حدثت في برنامج مرموق في فضائية أوروبية مع مذيع مرموق، وكنت فيها ضيفا مع صديق يشغل منصب مرموقا في مجال الدراسات السياسية والإستراتيجية، وكان موضوعها مبكرا جدا بما يتناسب مع أطراف المناقشة والعرض والموضوع.
وكان هذا التساؤل الواضح يومها للباحثين بأكثر مما هو واضح لعامة الشعب.. كان هذا التساؤل هو: لماذا تتصرف الدولة العميقة تجاه الرئيس المنتخب محمد مرسي على هذا النحو؟
حاولت بالطبع أن أجيب على السؤال إجابات مباشرة في الغالب وإجابات غير مباشرة بما تقتضيه اللباقة أو تتطلبه الوطنية الحريصة على تجنب تفجير صراع مبكر قد يكون من الممكن احتواؤه.
لكن الضيف الآخر ابتعد تماما عن السؤال ولجأ إلى الحديث عن البيرقراطية وأنها متعبة للرؤساء والزعماء والساسة لكنها ضرورية.. حاول المذيع الذكي أن يبتعد بالضيف عن الخط المقصود الذي وقع فيه فلم يفلح، حينها لم يجد بُدا من أن يصارحه بأنه يتحدث عن شيء آخر غير موضوع الحلقة.
ولكن الضيف صمم على أن يظهر في صورة غير المدرك وفضل هذا الموقف على أن يظهر أمام من يعرفهم ويعرفونه من عناصر الدولة العميقة نفسها في صورة المدافع قبل الأوان أو المهاجم قبل الاستئذان، وكان هو الذي صرح لنا بهذه الحيلة.
كان الأمر درسا رائعا لي وللمذيع، وبعد ساعتين من انصرافي فوجئت بالمذيع يحدثني قلقا مما أسماه هذا المستوى الذي وصل إليه خبراء وعلماء وأساتذة في مصر، ففاجأته بقولي إن موضوع عداوة البيرقراطية للديمقراطية يفوق في أهميته عداوة الدولة العميقة، ومع هذا فإن الضيف لم يقاربه على النحو الذكي الكفيل بإثبات ومناقشة مثل هذه الفكرة، ووعدته أن أروي له بعيدا عن الشاشة بعض العلامات البارزة في هذا التاريخ.
القصة الثانية: كان الدكتور محمد حسين هيكل الأديب والمفكر العظيم بطلها، إذ كان يهاجم حكومة سعد زغلول (1924) لحساب حزبه، أي حزب الأحرار الدستوريين. وبلغ في هذا الهجوم حدا موحشا ومستوحشا وصل حد التقاضي في المحاكم، فلما حدث ما حدث من انقلاب دستوري وأدرك أقطاب الأحرار الدستوريين مدى حاجتهم إلى عودة الديمقراطية والعمل إلى جوار الوفد، أو بتعبير أدق في كنف الوفد، وبدأ تنفيذ سياسة الائتلاف وأثمرت عن انتخابات عام 1926، بدأ الحديث عن تشكيل وزارة ائتلافية، وذهب الصحفي الشاب الذي هو محمد حسين هيكل إلى سعد زغلول يحاول أن يحصل منه على ما ينويه من ترشيحات للحكومة الائتلافية، فإذا بسعد زغلول (في رواية هيكل نفسه) يقول له: أو تظن أن تشكيل الحكومة ورئاستها مسألة هينة؟
ثم يصل معه إلى القول بأنه قد لا يجد الكفاءات اللازمة، ودارت مناقشات حول أسماء الساسة البارزين ليس هذا موضعها، لكن المناقشة انتهت بسعد زغلول وهو يقول لهيكل إن مشكلات الموظفين تمثل ما يمكن لنا الآن أن نصفه بالورم الذي لا علاج له.
تعجّب هيكل من هذا المنطق وهذه الرؤية، وهذا “التوجس الزغلولي” تجاه ما اعتبره هو نفسه أمرا مبالغا فيه، وانتهت المناقشة، وهو قلق من ناحية ودهش من ناحية أخرى.
وبعد سنوات أصبح هيكل باشا وزيرا في آخر أيام 1937، وإذا به يكتشف مدى الصواب المطلق في ما أدلى به سعد زغلول في ساعة رضا، وإذا بالصفحات تأخذ من الوزير هيكل ذكريات مؤلمة مر بها في عهده الوزاري الذي تكرر حتى ملّ الوزارة وآثر عليها أن يكون رئيسا للشيوخ، بل وصل الأمر إلى أنه لم يفكر في أن يلعب لنفسه على منصب رئاسة الوزراء الذي كان من الوارد أن يؤول إليه بحكم رئاسته لحزب الأحرار الدستوريين.
وبلا مواربة فإن هيكل لم يكن يكره السياسة، ولكنه كان يكره البيرقراطية التي جعلته يدرك دون أن يعترف اعترافا صريحا، أنه “لا فائدة”!
القصة الثالثة: ترتبط بعبارة كررتها أكثر من مرة وكان القراء والمشاهدون يحاولون التأكد من صوابها، وهي أن الرئيس عبد الناصر كان حريصا على منصب رئيس الوزراء بما لا يقل عن حرصه على رئاسة الجمهورية، بل إنه ربما أحب منصب رئيس الوزراء أكثر مما أحب منصب رئيس الجمهورية، وواقع الأمر أنه حكم مصر في الفترة ما بين 1954 و1956 من خلال منصبه كرئيس للوزراء، وكان مجلس قيادة الثورة يشغل ما يطلق عليه في المصطلح الدستوري منصب رئاسة الدولة.
وفي تقديري أن هذا الوضع كان أفيد لمصر ولعبد الناصر نفسه من الوضع الدكتاتوري الصريح الذي تكرس بعد هذا على يد عبد الناصر نفسه وعلى رأس أو دماغ عبد الناصر نفسه.
ربما يسأل القارئ الآن هل كان لهذا الحب أو التفضيل أو الحرص الناصري علاقة بالسيطرة على البيرقراطية؟ الإجابة نعم، والسؤال التالي إلى أي حد؟ والإجابة الصريحة: إلى حد 100%، والسؤال الثالث والأهم، ولماذا وصلت الأمور في عهد عبد الناصر إلى هذا الحد من السيطرة الكاملة للبيروقراطية على مجريات الأمور بما فيها الأمور السياسية؟
هنا نستطيع أن نشير فقط إلى رؤوس موضوعات يفهمها الجميع بحيث لا يحتاجون إلى تكرار الحديث في تفاصيلها، ولكنهم يستذكرون بها واقع الأمر في الحياة المصرية اليومية:
1- أثبت التاريخ أن البيرقراطية المصرية عتيقة وليست قديمة فحسب، بل إنها ساحقة القدم وتتعلق في جذورها بالحياة من خلال ارتباطها بالبدائل المتعلقة بسريان النيل وجريانه وفيضانه وبمعالجة آثار كل هذه المخاطر الطارئة من ناحية، مع عدم إغفال الخطوات الروتينية من ناحية أخرى.
2- أثبت التاريخ أن البيرقراطية المصرية قادرة على أن تتخذ القرار المناسب، لكنها تفضل دائما أن تعطي الساسة إحساسا زائفا بأنها تنفذ مشيئتهم، وهي في هذا السلوك سيدة لعوب إلى أبعد حد ممكن، وتصل في هذا الخلق إلى ما لم يمكن لسيدة لعوب أن تصل إليه في الإقناع بالأهمية والحميمية وفي الدفع إلى الإغواء بكل ما فيه من تهور وجنون وفقدان للعقل.
والأمثلة على هذا تملأ مجلدات تروي قصة القضايا التي انتصرت فيها البيرقراطية على من خدعتهم بأنها توظف نفسها تحت أمرهم، فإذا بها تنصب لهم الشباك التي تنتهي بهم إلى السجن المؤبد.
وقد عرف الساسة المعاصرون هذا من كثرة مطالعتهم للإعلام فأصبحوا خائفين من هذه اللعوب أكثر من الخوف الطبيعي، وكانت نتيجة خوفهم قوة مضافة إلى سطوة البيرقراطية.
3- أثبت التاريخ أن البيرقراطية المصرية قادرة على الإرهاب الحقيقي والمتجدد بما تتطلبه من تكرار الإمضاء والتوقيع والموافقة وعدم الممانعة في كل خطوة، وهي تقنع أصحاب التوقيعات بأهميتهم وكأن الحياة تسير بتأشيراتنا نحن، بينما هي تخدعنا بكل هذا العبث الطفولي الذي نفرح به لدرجة أن نظن أن توقيعنا للموافقات إنجاز.
4- أثبت التاريخ أن البيرقراطية المصرية حريصة على الدوام على أن تبدع خصوصية لكل حالة عامة، بحيث إنها في النهاية تصل إلى أن تقصي وتنفي فكرة القانون الذي هو في جوهره أحكام عامة لا تحتاج إلى أن تخصص لكل حالة قانونها، وهكذا ترتفع أهميتها فوق القانون أيضا.
5- أثبت التاريخ أن البيرقراطية المصرية قاتلة للوقت نافية لقيمته محتقرة لمرور الزمن فلا يهمها إلا ما استطاعت الحصول عليه على مدى عقود من تأييد لها من خلال أحكام القضاء، وجوهر مكسبها يتمثل في أن المهم هو الصواب البيرقراطي مهما كان متأخرا، وأن الزمن لا قيمة له في إلحاح القرار أو الحاجة الملحة إليه.
6- أثبت التاريخ أن البيرقراطية المصرية هي أذكى الكيانات من حيث القدرة على تأمين نفسها، فكل ورقة تحمل توقيعات متتالية تجعل كل صاحب توقيع يعمل حسابا لمن قبله على نحو ما يعمل حسابا لمن بعده، بل إنه قد يفوق في تخوفه ممن قبله ما قد يفكر فيه من تخوف ممن هو بعده (أي أعلى منه في السلم البيرقراطي).
7- أثبت التاريخ أن البيرقراطية المصرية قادرة على فرض اختيارها بين البدائل على أكبر عقلية إدارية أو علمية، ذلك أنها تقدم البدائل في الصورة التي تميل بها سلطة القرار إلى ما تريده البيرقراطية لا إلى الصواب.
ودعني أسألك: هل يستطيع آينشتاين أن يجبر الحكومة المصرية على شراء طبعة جميلة من كتابه الشهير عن النسبية إذا قدمت البيرقراطية المصرية طبعتين من الكتاب بسعر يقل عن الطبعة الجميلة بمقدار 100%؟ وهل يستطيع آينشتاين أن يكتب تقريرا يفيد بأن الطبعتين الأخريين تحتويان أخطاء مطبعية إذا عرف أن المحاكم المصرية ستقول في نهاية حكمها في القضية: إنها مجرد أخطاء مادية لم تفسد النظرية ولا أصولها ولا تستدعي شراء هذه الطبعة المكلفة بديلا عن هذه الطبعات الرخيصة المتوافقة مع قانون المناقصات والمزايدات رقم 9 لسنة 2100 بعد الميلاد.. نعم أنا أقصد هذا التاريخ لأن الواقع لا يبدو أنه سيتغير، وبخاصة في زمن الانقلاب.
بقيت في هذا المقال جملة يمكن وضعها على نحو ما أردت من تأخيرها لتكون وصفا لآخر كلمة فيه، وهي كلمة الانقلاب، أما الجملة فهي وصف للانقلاب “الذي كانت البيرقراطية إحدى دعاماته القوية والمؤثرة والحاسمة”، لأنها في واقع الأمر كانت تدافع عن نفسها ضد عدوها اللدود: الديمقراطية.
تاريخ النشر: ٢٠١٣/١٢/١٦
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
ولقراءة المقال على موقع الجزيرة.نت اضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا