ماذا بعد الإنقلاب؟

 

 

  تاريخ النشر : ٢٠١٣/٨/٣٠

تصور الانقلابيون في مصر أن الأمر لن يتعدى أسبوعا من الزمن حتى تستقر لهم الأمور، لكن الأسابيع مضت بينما الاحتجاجات الشعبية تتصاعد إلى حد مذهل.

وبدلا من مراجعة تقديراتهم بدأ الانقلابيون يراجعون أوراق الشعب ومن ثم إعادة تشكيل العلاقات الحاكمة للرأي العام، وذلك من خلال عدة محاور مخابراتية الأساس أمنية الطابع. وفي هذا الصدد نجحوا حينا وأخفقوا في أحيان أخرى، وربما كان من المفيد أن نتأمل في بعض الديناميات التي حكمت الصراع في الأسابيع الماضية. 1- بدا الانقلابيون على سبيل المثال متصورين بل متأكدين أن بإمكانهم أن يعيدوا إيجاد وتوسعة الحظيرة التي كانت بمثابة الملاذ الآمن لمجموعات من المشتغلين بالثقافة في عهد الوزير الأطول عمرا بالثقافة ووزارتها.

ومن هنا لجأت الدولة العميقة في مصر إلى استعادة علاقاتها الوثيقة (أو بتعبير أدق: السلطوية) بكتاب وصحفيين كانت قد ابتعدت عنهم أو أبعدتهم أو تركتهم يبتعدون أو فرحت بهم وهم يتباعدون، وتمت آليات الاستعادة من خلال توظيف واستثارة علاقات الشللية التي من المعروف أنها هي أبرز علاقات سائدة في مجتمعات المشتغلين بالثقافة.

وهكذا لم يكن أمر تشكيل حظيرة جديدة من المنتفعين صعبا وإن لم يكن مأمونا تماما، والسبب بسيط، وهو أن تطلعات هؤلاء ومقارناتهم المستمرة لمزاياهم غير الشرعية ستتكفل سريعا بصراعات نفسية تنتج على نحو ما حدث بالفعل رغبات محمومة في التسريب المحموم، وهي رغبات كفيلة بأن تنتهي بتفكيك النظام على نحو ما حدث في عهد مبارك. وليس سرا أن غرفة عمليات الثقافة أطلقت كثيرا من النيران الصديقة التي آذت النظام الانقلابي من حيث لم يكن يحتسب. 2- في مرحلة مبكرة بدا أيضا للانقلابيين في مصر أن الإعلام المصري قد ارتاح لوجود الانقلاب العسكري، وأنه سيظل يسبح بحمده ومشروعيته وضرورته وعبقريته دون ملل، لكن الظروف الذكية سرعان ما بينت للانقلابيين أن تكلفة التأييد الإعلامي أبهظ مما كانوا يتصورون، فسرعان ما بدأت الفواتير المطلوبة للسداد (نقدا وحالا) في التوالي على مكاتب رجال الانقلاب، وفي تلك اللحظة لم يكن هؤلاء الانقلابيون يملكون ترف إعلان عدم اقتناعهم بمعقولية كثير من بنود الفواتير فضلا عن مشروعيتها. وليس سرا أن أحد كبار رجال الانقلاب قد أحال بعض هذه الفواتير على خبير إعلامي وإعلاني يمت بصلة النسب لأحد كبار المنظرين للانقلاب، وكانت النتيجة التي يمكن تلخيصها في سطر واحد: أن تكلفة المساحة الإعلانية في إعلامنا المحلي تتراوح بين ٢٠٠% و٢٥٠% من تكلفة المساحة النظيرة في الإعلام العالي عابر القارات. وينطبق هذا على الدقيقة في القنوات التلفزيونية كما ينطبق على السطر الواحد في الصحف، ولما فكر أحد كبار الانقلابيين في الإفادة من حليب التلفزيون المملوك للدولة أيده الباقون، لكنهم سرعان ما اكتشفوا أن شراء اللبن الحليب من الأسواق مبسترا ومعلبا لن يصل بأي حال إلى تكلفة عملية الحلب وحدها. ومع هذا فإن حق الأرانب والأفواه في ماسبيرو (وهو الاسم الرمزي المختصر للتلفزيون والإذاعة المصريين) أجبر الدولة على تخصيص مليارات الجنيهات لعملية تطوير وهمية وجديدة تصب في النهاية في المحافظ الشخصية التي هي مثقوبة على حد تعبير المصريين. 3- رغم الحملات الإعلامية المحمومة في خلق شرعية للانقلاب فوجئت إدارات التوجيه المعنوية بتسريب كثير من أسرارها الحربية والمخابراتية، وقد حدث التسريب في كل مرة صوتا وصورة وبما لا يدع مجالا للشك في صحة ما قد تسرب وفيما يدل عليه، وربما كان فيديو المشايخ الثلاثة (اثنان منهما خريجا كليات التجارة) دالا دلالة واضحة على نوع فج من الإعلام التعبوي لا التوجيه المعنوي فحسب. وقد خلق التسريب حالة مثالية من حالات التخريب الأوتوماتيكي لمنظومة لا أخلاقية وظفت المشاعر في غير مسارها الطبيعي بقصد وترصد، بيد أنه في المقابل دفع الانقلابيين إلى التفكير الملح في ضرورة إيجاد آليات لتأمين خططهم وخطهم، وسرعان ما وقع الانقلابيون أسرى فكرة الاستعانة ببيوت خبرة أجنبية تضمن لهم النجاة من تطفل مواقع التواصل الاجتماعي -مع أن هذا غير ممكن بالطبع- لكن الإلحاح في تسويق الفكرة جعل الانقلابيين يرحبون بأن يحاولوا إيجاد علاج مكلف، لأنهم يرغبون بشدة في النجاة تماما من السرطان بقدر الإمكان، ولم يختلف الأمر في حالتهم عن وضع مريض السرطان الذي يتعلق بما يسمى مجازا بقشة الغريق، رغم أن هذا المريض كان قد تمكن من أن يركب الباخرة الآمنة بمقاييسه هو. 4- جاء تناقض الخطاب الانقلابي مع ذاته ليضفي بعدا قاتلا على الصورة الذهنية للانقلاب، وعلى سبيل المثال أصبح الحديث عن القائد العسكري للانقلاب يصوره على أنه المسيح المخلص عند البعض أو عند القلة حين تعددت الصور غير الباهرة له عند الآخرين. وقد تراوحت هذه الصور بين صورة الأجير القادر الذي أنجز مهمة وبات ينتظر المقابل، أو الأجير الذي اندفع إلى تحقيق هذا الإنجاز تحت تأثير وهم الزعامة، أو المحارب الذي وقع ضحية لأزمة عابرة من أزمات منتصف العمر، أو السياسي الخاضع للأميركيين تماما ولأوامرهم، وأنه هو الذي نال رتبة الرضا الأولى حتى وإن عجز عن الاحتفاظ بها. 5- إذا كان من الجائز تلخيص هذه التصويرات في كلمة واحدة لكل منها، فإن وضع القائد يتراوح بين المسيح والمقاول والموهوم والمراهق والعميل. وفي كل الأحوال فإنها في مجملها أوصاف لا تريح. 6- تفاوتت وتعددت أسباب السعادة عند حلفاء العسكر، فحزب النور شامت حتى النهاية في الإخوان الذين لم يستمعوا لنصحه المبكر، ويبدو وكأنهم اكتفوا بالشماتة، والناصريون شامتون في ضحايا ناصر الذي ظنوه ناصرا فردا بينما هو توجه قسري وقهري وعميق. ويبدوا أنهم هم أيضا قد اكتفوا بالشماتة، والوفديون الجدد وهم شامتون منذ زمن أبعد في الإخوان الذين لم يقدروا قيمتهم وأقدميتهم. أما عبد المنعم ومحمد سليم فيقولان بطريقة ملتوية إنهما (كلا على حدة بالطبع) كانا أقدر على الالتواء الواقي من الانقلاب. 7- من حسن الحظ أن للشعب المصري رأيا آخر، وهو رأي أعمق وأصوب وأهدى.

 

تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت

ولقراءة المقال على موقع الجزيرة.نت اضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com