تاريخ النشر :٢٠١١/٨/٧
كان من آليات عهد الرئيس عبد الناصر التى استمرت طوال عهدى السادات ومبارك، أن الحفاظ على سياسى ذى مستقبل يقتضى إبعاده عن الوظائف التنفيذية الكبرى الكفيلة بحرقه تماما، على نحو ما حدث مع ثلاثة من انجح رجال عهد عبد الناصر هم: كمال الدين حسين، وزكريا محيى الدين، وعلى صبرى.
ويقول المؤرخون الأذكياء إن هؤلاء أشعلوا النار فى صورتهم فى قلب عبد الناصر حتى أصبح يكرههم تماما، رغم كل ما قدموه لنظامه من خدمات، وملامح، وإنجازات حتى إن 50% من إنجازات عبد الناصر تكاد تكون إنجازات لهؤلاء الثلاثة بصرف النظر عما إذا كانت هذه الإنجازات سلبية أو إيجابية.. ضارة أو نافعة..باقية أو متبخرة.
وفى أكتوبر 1978 كاد يحدث شىء مشابه مع حسنى مبارك حين كلفه السادات بتشكيل الوزارة، وبدأ حسنى مبارك مشاوراته لكن الممثل الرسمى للراعى الخفى لحسنى مبارك طلب مقابلة السادات وطلب منه العدول عن هذه الفكرة الكفيلة بحرق الكنز الاستراتيجى الذى لم يكن أحد يعرف من أمر علاقاته الخارجية أى قدر معقول، وكان الراعى الخفى من الذكاء والجاهزية بحيث قدم للسادات اسم رئيس الوزراء البديل الذى شكل الوزارة بالفعل فى أكتوبر 1978، وهو الدكتور مصطفى خليل.
بعد سنة ونصف فى مايو 1980 تكرر الشىء نفسه بالسيناريو نفسه، وتدخل الراعى الخفى لحسنى مبارك وجنبه الوقوع فى هذا الشرك، لكن الأمور كانت تقتضى نوعا من الحل الوسط، وهكذا شكل حسنى مبارك الوزارة دون أن يرأسها، وقام بكل الاستقبالات والترتيبات والصياغات، بينما الرئيس الاسمى هو السادات، والرئيس التنفيذى هو فؤاد محيى الدين.
كان هذا كله واضحا أمام أعين جمال مبارك ومستشاريه، ودليلى على هذا أننى شخصيا سئلت أسئلة تفصيلية لا تحتمل إلا معنى واحدا، وهو أن جمال مبارك فضل سيناريو مايو 1980 على سيناريو أكتوبر1978، وعلى سيناريوهات كمال الدين حسين، وعلى صبرى، وزكريا محيى الدين.
وفى ديسمبر 2005 أتم جمال مبارك خطوة واسعة فى سبيل تحقيق مجده، لكنه رزق برئيس وزراء أضيق أفقا من فؤاد محيى الدين، وأقل منه فى الوطنية والجاذبية، والعمل الجاد، والفهم الحقيقى، والإخلاص للفكرة والأشخاص والوطن، وكان فى واقع الأمر أقل بكثير جدا، ولم يكن أقل فحسب.
وقد دفعنى هذا فى ذلك الوقت إلى أن أصرح تصريحات صحفيا تصورت أنه يحرك الأمور ليضعها فى نصابها، أو ليثير النقاش الجاد حول فكرة التتويج والمسئولية والأيدى الخفية، مشيرا فى مضمون تصريحى إلى أن رياسة الوزراء قد تأخرت على جمال مبارك، وإذا بى أفاجأ بردود فعل ساخرة من فكرة المسئولية نفسها، وكأنى أصبحت أعيش فى ظل المافيا لا فى كنف الدولة.
وطيلة أسابيع تالية كنت أتلقى من التعليقات ما يؤكد استنتاجى، وكنت أتعجب: لماذايشعل جمال مبارك النار فى نفسه؟!
هل يعقل أنه كان يفعل ذلك حتى يراه الناس؟
كنت أقول: من الذى كان يتصور أن يتحدث شاب يعيش العصر عن تبشير الشعب بالدخول إلى عصر طاقة خطرة كالطاقة النووية هجرها أهلها إلا أن يكون راغبا فى إشعال النار فى نفسه، كنت أقول من الذى يتصور أن شابا عاش حياته كلها فى المدينة حيث المساكن منفصلة عن موقع العمل يقبل بفكرة تدمير الأراضى الزراعية الخصبة بمبان عشوائية فى القرن العشرين، ويضحى من أجل شعبية مشكوك فيها بسياسات راسخة حافظ والده عليها؟ إلا أن يكون سياسيا راغبا فى إشعال النار فى نفسه.
كنت أقول: من الذى يقبل باختيار وزراء أجانب؟! إلا أن يكون سياسيا متعجلا راغبا فى إشعال النار فى نفسه، وإلغاء فكرة الحكومة المصرية وفكرة المواطنة نفسها؟!
كنت أقول: من الذى يوصى بتعيين موظفين فى المخابرات الأمريكية فى مواقع رؤساء مجالس إدارات الصحف القومية، إلا أن يكون سياسيا راغبا فى إشعال النار فى نفسه؟!
كنت أقول: من الذى يترك عبث وزراء الخدمات الثلاثة بأدق مشاعر الجماهير، وبأموالهم، وصحتهم، وتكوينهم، مع أن أحدا فى العالم كله لم يكن يتصور أن يبقى هؤلاء بعيد عن غرفة الإعدام. من يقبل بهذا إلا أن يكون سياسيا راغبا فى إشعال النار فى نفسه.
كنت أقول: من الذى يترك المماليك يعبثون بشاربه وذقنه وهم يزعمون أنهم يخفون الشارب، ويحلقون الذقن، إلا أن يكون سياسيا راغبا فى إشعال النار فى نفسه.
كانت إجابتى عن هذه الأسئلة واضحة تماما لكنها كانت تمضى إلى سؤال أعمق وهو:
لماذا أشعل جمال مبارك النار فى نفسه؟؟
وكانت إجاباتى معتادة وأظنها كلها كانت صائبة:
*لأنه لم يطق صبرا على ما منى به نفسه.
*لأنه لم يعرف وسيلة أخرى للظهور واللمعان واقناع الجماهير بنفسه.
*لأنه وجد أن الوسائل الأخرى أضعف من لفت الأنظار إليه.
*لأنه كان يجد من أجهزة الدولة وإعلامها من يطفئ النار فى كل مرة وينقذه من الغضب القاتل.
*لأنه خلق هكذا فاقدا القدرة على التألم من النار المشتعلة.
*لأنه كان يظن أن هناك حلاوة بدون نار
ثم جاءت واقعة عابرة جعلتنى أوقن أن الأمور وصلت إلى مدى أبعد مما أتصور، فقد فوجئت عند زواجه بكل الصحف وهى تذكر عمره مخالفا لعمره الحقيقى، وذلك بتصغيره عامين كاملين، فزعت وفهمت أن الأمر ليس خطأ من هذه الصحيفة أو تلك، لأنى وجدت الأمر “معمما”، أى موجودا فى جميع الصحف المستقلة، والقومية، والحزبية، والخارجية، والقبرصية، واللندنية.
انتهزت أقرب فرصة التقيت فيها بواحد من رؤساء تحرير الصحف المستقلة(!) واستنكرت عليه الخطأ، وبحسن نية رد على بأنه يعرف الحقيقة لكن التعليمات صدرت هكذا، قلت لصديقى: لكن التاريخ مثبت فى قاعدة معلومات الجامعة الأمريكية المتاحة فى جميع أنحاء العالم بضغطة زر واحد.. فتح صديقى فاهه وسألنى عن قاعدة المعلومات هذه، فلما أدرك حجم الحقيقة نظر إلى فى أسى وقال:
لك الله يامصر.
قلت: وأنتم … ونحن.
قال: لك الله يامصر.
قلت: أهذا كل ما عندك
قال: إن يدك ياأستاذنا فى الهواء والماء، لكن أيدينا فى الماء المغلى والزيت المغلى.
قلت: ورؤساء الصحف القومية.
قال: هؤلاء يعانون بالإضافة لنا من القطران المغلى، والزفت المغلى.
قلت زيت وقطران وزفت فماذا بقى؟
قال: بقى الغاز.. لكنه لإسرائيل!!