لاشك فى أن جمال عبدالناصر كان محباً للزعامة ومحباً للخلود وأنه أوتى القدرة على النجاح فى هذين المجالين بقدر ما سعى من أجلهما.
ومع أن كثيرين يرون أنه كان فى وسع جمال عبدالناصر أن يصل إلى أبعد مما وصل إليه فإنى أرى أنه وصل إلى أقصى ما كان يمكن أن يصل إليه بإمكاناته وقدراته ومعطيات عصره.
كذلك فإن كثيرين يرون أن عبدالناصر كان محظوظاً بأكثر مما يستحق لكننى أرى أنه نال ما يستحق سواء كان نواله هذا فى غفلة من أعدائه أو برضاهم.
سوف نرى فى الفقرات التالية بعض ملامح مسيرة عبدالناصر مع الزعامة ومع الخلود.
(1) كان عبدالناصر واعياً لقيمة العدالة الاجتماعية لا فى معناها الإجمالى ولكن فى معناها الجزئى المتعلق بحصول الفقير على بعض حقه على الوطن.. وقد نجح فى هذا المعنى نجاحاً واضحاً بفضل دأبه فى تمويل هذا الطموح حتى على حساب الناجحين والمجدين.
لعلى أدلل على هذا بقصة قرأتها اليوم فى مذكرات الدكتور مراد وهبة حيث يروى أنه كان يعمل فى مجلة وطنى بالإضافة إلى عمله فى الجامعة وأنه فوجئ ذات يوم باستدعائه للتحقيق فى النيابة نظراً لشغله وظيفة فى وطنى بالإضافة إلى وظيفة الجامعة وكان عبدالناصر قد أصدر قانوناً حاسماً ينص على اعتبار الموظف مستقيلاً من وظيفته وفاقداً لها (بقوة القانون) متى ثبت أنه يعمل فى شركة خاصة أو عامة.. وهكذا كان مراد وهبة معرضاً لفقد وظيفته الجامعية فوراً، وقد قال لوكيل النيابة إنه لا يعرف هذا القانون فاعترف له وكيل النيابة بأنه هو الآخر لم يكن يعرفه، لكن أحد منافسى مراد وهبة فى جريدة وطنى حرر شكوى فيه بناء على جمعه بين هذين العملين، وكان مقتضى هذه الشكوى أن يفصل مراد وهبة من الجامعة، وهو ما يؤدى إلى أن تتاح وظيفة لآخر ليست له وظيفة، أو أن يسارع مراد وهبة بترك وظيفة «وطنى» وهو ما يؤدى إلى نفس النتيجة.
هكذا كانت تشريعات عبدالناصر كفيلة بإيجاد مجالات توظف كثيرة.. ولو أننا استحضرنا روح تشريعات عبدالناصر اليوم فى سبتمبر 2011 لقضينا على البطالة فى مصر بلا مبالغة لكن الدولة لا تزال تأخذ بمبدأ رعاه ودعمه أحمد نظيف ووزراؤه.. ومما يؤسف له أن التعيين فى وظائف الحكومة أصبح سلاحاً يستخدمه الوزراء ورئيسهم من أجل تقوية موقفهم أمام كبار العاملين فى الهيئات الرقابية والرقابة الإدارية والجهاز المركزى للمحاسبات. وأمن الدولة والمخابرات والأحزاب والرياسة ومجلس الشعب، وهكذا فإن رئيس الوزراء الحالى الذى يوصف بأنه جاء من ميدان التحرير أصبح يساوم زعماء الائتلافات والأحزاب والجماعات على مواقفهم منه مقابل تعيين من يريدون تعيينه على حين كان التعيين فى عهد عبدالناصر من خلال مكاتب القوى العامة التى تحصر الخريجين وتعينهم حسب المواقع المتاحة حتى لو كانت المواقع المتاحة بعيدة بعض الشىء عن تخصصاتهم الأصلية إلا أن الخريجين كانوا يجدون فرص التوظف ويجيدون فيما وظفوا فيه لأن الوظائف ليست كيمياء، ولعلنا نتأمل على سبيل المثال ما رواه رءوف عباس عن عمله فى شركة صناعية وكيف أدى عمله الإدارى والكتابى على أفضل وجه دون أن يكون خريجاً للتجارة مثلاً ومع هذا فإنه واصل دراسته وأصبح أستاذاً عظيماً فى التخصص الذى حصل على شهادة الجامعة الأولى فيه.
وقل مثل هذا عن كثيرين عينوا بليسانس الفلسفة ليكونوا أمناء مكتبة زودت من ثقافتهم حتى أصبحوا إداريين.. هكذا وهكذا.
والحق أن عبدالناصر لم يكن ليضيع وقته فى الرد على دعاوى السخرية من سياسة القوى العاملة فى تعيين الخريجين الجامعيين وأصحاب الشهادات المتوسطة فى أماكن تبدو بعيدة نوعاً ما عن تخصصاتهم الجامعية بل إن عبدالناصر كان مؤمناً بفكرة قدرة التعليم الجامعى على تكوين المواطن الصالح وكان أكثر انحيازاً لها من بعض كبار أساتذة الجامعة الذين هاجموه وسخروا منه فى هذه السياسة بدعوى التخصص.
ثم إن لنا أن نقارن هذه العدالة الاجتماعية التى أرساها جمال عبدالناصر بذلك الادعاء والتعالى الذى تمارسه حكومة عصام شرف بعد الثورة حين تزعم أن أصحاب الماجستير والدكتوراه الذين اعتصموا فى أكاديمية البحث العلمى لم يكونوا على حق لأنه لا توجد لهم وظائف.. وإذا بهؤلاء الذين تعلموا روح البحث وأسلوبه يسخرون بالأرقام من ادعاءات رئيس الوزراء ووزرائه ويثبتون بأوراق الحكومة والجامعات أن هناك 63 درجة خالية فى تخصص يبدو بعيداً عن الحياة لكنه موجود فى الجامعات ويفتقد 63 من حملة الدكتوراه. بينما المعتصمون من حاملى الدكتوراه فى هذا التخصص أقل من نصف هذا العدد.. ومن المفارقات أن قانون الجامعة نفسه يلزم الجامعات بالإعلان فى مطلع كل عام عن الدرجات الخالية.. ومع هذا فإن الجامعات لا تعلن حتى لا يقل عائد الأساتذة من توزيع كتبهم بينما هؤلاء المتأهلون بالشهادات العليا يعتصمون ويضربون عن الطعام ولا يجدون من يستوحى روح عبدالناصر فى تعامله معهم، بل إن كبار الموظفين بمن فيهم رئيس الوزراء يحاولون أن يصفوا هؤلاء بأنهم بلطجية!!
هل ذهبت بعيداً فى قضية العدالة الاجتماعية التى تعنى أول ما تعنى بتوفير دخل مهما يكن ضئيلاً «حتى لو كان إعانة بطالة» لخريجى الجامعات والقادرين على الوظائف أم أننى أصبت أول معانى هذه العدالة على مستوى الدخل والتوظف ومحاربة البطالة؟
ذهب كثير من الذين انتقدوا عبدالناصر إلى أنه جعل الجماهير تعتمد على الدولة وتفرط فى روح العمل والبحث والاجتهاد، ومن العجيب أن هذا الزعم على صوابه الظاهرى لم يجد حتى الآن بديلاً عمليا يثبت به إمكان تحقيق مسار آخر غير هذا المسار البسيط الذى أوجده عبدالناصر.
وقد كان عبدالناصر نفسه يعانى على مستوى أولاده من البحث عن الوظيفة المناسبة لكن أقصى ما وصل إليه أن تتوظف ابنته هذه أو تلك بما لا يزيد على ثلاثة أضعاف زميلها أو زميلتها، مع إمكانية حصول هذه وتلك وهؤلاء على الوظيفة فى نفس عام التخرج.. لكننا فى ظل نظام السوق وجدنا ابنى رئيس الوزرارة الأسبق يصلان فى راتبهما إلى أكثر من مائتى ضعف زميلهما الذى يحمل نفس الشهادة وربما كان متفوقاً عليها، ووجدنا هذين الابنين يؤسسان شركات ويبيعان الحكومة.. إلخ.
وقل مثل هذا فى ابنة رئيس الوزراء الأسبق التى شغلت أكثر من ثلاث وظائف متوازية بمرتبات عالية وأصبح هذا النمط كفيلاً بأن يصفى ويستحوذ على ما كان ممكناً أن يوزع على الشعب وأصبح الخبير الواحد من خبراء حكومات عبيد ونظيف وشرف وشفيق يحصل على دخول إضافية تكفى لفتح بيوت ما لا يقل عن ألف أسرة.
وهكذا كان الاستغناء عن الأجور الإضافية التى ينالها ألف خبير يضمن حياة كريمة لمليون أسرة كما أن الاستغناء عن ألفى خبير بأجورهم الإضافية يضمن حياة كريمة لمليونين من الأسر.. ولو كان عبدالناصر حيا لاتخذ الإجراءات الكفيلة بهذه العدالة فى نصف ساعة ولبقى اسمه محفوراً فى الوجدان نصف قرن بسبب هذه الخطوة، فما بالنا بأن عبدالناصر اتخذ كثيراً من هذه الخطوات خطوة بعد أخرى.
من الحق أن تقول إن أنور السادات الذى يبدو فى أدبياتنا وكأنه مناقض لعبدالناصر فى كل شىء قد حافظ قدر ما أمكنه على التراث الناصرى فى العدالة الاجتماعية.. بل إنه حافظ على أكثر من 90% من هذا التراث رغم صعوبة الظروف ورغم كل التصويرات الشائهة التى تصور بها حقبته.. بل إن الانفتاح نفسه كان وسيلة من وسائل «عبدالناصر والسادات» للتخفيف عن كاهل الحكومة، وقد بدأ عبدالناصر سياسات الانفتاح قبل أنور السادات من خلال السماح بفجوات تسريب هنا وهناك.. بل إن عبدالناصر فى ظل سياساته المانعة للاستيراد سمح بدخول السلع المستوردة عبر غزة التى كانت تحت السيادة أو المسئولية المصرية،كما سمح للمصريين العاملين بالخارج بأولويات فى حجز السلع المعمرة «البوتاجازات والثلاجات.. إلخ» والسيارات من خلال عملاتهم الصعبة حتى يمكن له أن يوفر لمصانع القطاع العام بعض العملة الصعبة.
بل إن عبدالناصر نفسه خصص أحد فروع القطاع العام لبيع سلع استهلاكية واستفزازية كى يسمح لمسيرة العدالة الاجتماعية أن تمضى مع تسريبات محسوبة هنا وهناك لا تجعل العداء ضدها مستحكما، وهذا وجه من أوجه الحكمة الناصرية التى لم تكن فى حاجة إلى الإعلان الفج عن استثناءاتها أو تصريفاتها.
وخلاصة ما أريد أن أقوله فى هذا المجال أن عبدالناصر كان قادراً على الخلود وكان يبذل جهده من أجل الخلود ومن أجل الحفاظ عليه ولهذا خلد اسمه وبقى على الرغم من أن الزمن تجاوز أطروحاته وامتناعاته لكنه لم يتجاوز معتقداته ولا إنجازاته.
تاريخ النشر : ٢٠١١/١٠/١
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا