قصة فريقين

 

تاريخ النشر : ٢٠١٣/١١/١٥
كان المراقبون للشأن المصري يقولون إن الفرصة الوحيدة لأن يخلف جمال مبارك أباه هي أن ينصبه الأب في حياته، ويبدو أنهم كانوا على صواب.

ففي أكثر من اجتماع من تلك التي حضرها رجال النخبة، أعلن أحد قادة الجيش المصري أن سلوكهم كقادة في أحداث ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 كان مخططا له من قبل في حالة وفاة الرئيس مبارك واندفاع جمال مبارك إلى الترشح للرئاسة.

ولما سئل هذا القائد عما كانوا يخططونه لو أن الرئيس هو الذي رتب التنازل لابنه، أجاب إجابة غائمة بأنهم كانوا يعرفون أن الرئيس مبارك لن يقدم على مثل هذه الخطوة.

مضت الحياة على نحو ما نعرف، واستطاع واحد من ثعالب الجيش المصري أن يستغل رغبة المشير طنطاوي في الإعلان عن بعده أو تباعده عن الرئاسة، فاقترح عليه بكل المكر أن تكون صيغة تنازل مبارك عن العرش متوجهة إلى تكليف المجلس الأعلى للقوات المسلحة “وليس القوات المسلحة”، ذلك أن القوات المسلحة تعني القوات متمثلة في قائدها الأعلى ومن يليه، أما المجلس الأعلى للقوات المسلحة فتعني القيادة الجماعية التي تجعل لأصغر أعضاء هذا المجلس رأيا مهما ضئيلا كان أو ضعيفا.

ومن سوء حظ مصر المجاهدة أن هذا التصرف المصوغ بدهاء وخبرة في عاصمة معادية، جعل الأمر الداخلي يأتي على نحو ما خطط له عقل تآمري كان صديقا للمسؤولين المصريين المخترقين تماما، ومنهم الثعلب الذي كان على صلة مبكرة ووثيقة بالحلفاء المؤثرين خارج مصر.

وقد قادته العلاقة الوثيقة إلى أن يكون موثوقا به لديهم، وظهرت هذه الموثوقية مبكرا على عكس ما هو متوقع في مثل هذه الظروف من أن تأتي الموثوقية مع توثيق العلاقات التي لا تعدو أن تكون في مجملها علاقات عمل، لكنها في بعض الأحيان تدخل إلى ميدان العواطف والانتماءات من باب ضيق أو واسع، لكنها للأسف إذا دخلت لم تخرج.

في الوقت نفسه لم يكن العسكريون الآخرون في قمة الجيش المصري أو في مجلسه الأعلى غائبين عن توجهات بعضهم البعض، ولا عن طموحاتهم، ولا عن أسرارهم، ولا عن تحالفاتهم الجانبية مع الفئات المدنية التي أطلقت على نفسها اسم القوى المدنية.

وكان كل من اقترب من المجلس الأعلى للقوات المسلحة في ذلك الوقت يدرك بكل وضوح أن كثيرين من أعضاء المجلس يعملون لأجل أنفسهم فقط، ومع هذا لم يخل الأمر من إخلاص آخرين ووطنيتهم وبعد نظرهم وتجاوبهم مع الحق والعدل وإن لم يكن مع الحرية والديمقراطية.

في إطار هذه الصراعات العميقة وجد أعضاء لجنة تعديل الدستور أنفسهم مطالبين بأن ينصوا في هذه التعديلات بوضوح على فكرة الأبوين المصريين اللذين لم يلمسا أي جنسية أخرى، ولم تكن الفكرة في شقها الأول غريبة على الدستور المصري في نصوصه السابقة، لكن جزئية الجنسية السابقة كانت جديدة على النصوص الدستورية المصرية.

ومن الطريف أن أحدا لم يفكر في هذا الطلب الذي تقدم به أحد أعضاء المجلس العسكري البارزين، ولم يفكر -علي عادة الماكرين- فيما قد يكون وراءه، وذلك في انصراف الجمهور المصري المراقب إلى تفسير النص الخاص بالزوجة ومدى انطباقه على مرشح رئاسي حائز على جائزة نوبل.

وقد وصل الحال بهذا المرشح الذي يجيد صناعة الغرور عن حق أشار إليه في أحد أحاديثه إلى أن التعديلات الدستورية كانت من أجل غرض واحد هو حرمانه بالذات من الترشح للرئاسة، لكن طرافة العشوائية لم تقف عند هذا الحد دائما، وإنما أصبح هذا النص بمثابة العقبة الكؤود التي حالت دون أبرز مرشحي الرئاسة حازم صلام أبو إسماعيل وبين الاستمرار في هذا الترشح بعد ثلاثة تصريحات متوالية عن أحكام قضائية وإدارية!!

على صعيد آخر لم يكن الحديث فيه يأخذ ما يستحقه من أهمية، كان هناك لغط يتردد كالجزر والمد، حول مدى إمكان الأخذ بفكرة العزل السياسي على نحو ما حدث عقب ثورة 1952، حيث عزل كل من تولوا الوزارة منذ 1939 حتى قيام الثورة في 1952، وكان الخبثاء يسارعون بإغلاق فم من يتحدث في هذا بالتنبيه على أن هذا العزل سينطبق من باب أولى على من يشغل منصب رئاسة الدولة في تلك اللحظة، وهو المشير طنطاوي.

وهكذا كان باب الحديث بعزل الوزراء السابقين يغلق بسرعة، وكأن تيارا هوائيا قويا قد جاء من ناحية مقابلة، ولست أستطيع أن أنكر أنني شخصيا حين استدعي رأيي في أثناء تلك المحاولات، حاولت أن أنبه على أن يصدر العزل في صورة إعلان دستوري مسبب ومحصن ومسمى، أي متضمنا على سبيل الحصر كل من ينطبق عليهم العزل.

وهكذا يكون في وسع القائمة أن تستبعد المشير وغيره ممن ترى الدولة القائمة أهمية مشاركتهم لا استبعادهم، وذلك من قبيل فايزة أبو النجا وحسن يونس والجنزروي وغيرهم، ورغم وجاهة ووضوح وأسبقية الفكرة فإن أقطاب البيروقراطية الموجهة كانوا من الخبث -ولا أقول من الذكاء- بحيث أكرموا ألف عين من أجل عين واحدة أو ثلاث عيون.

هكذا جاء قانون العزل متأخرا عن موعده دون أن ينص صراحة على من يعزل ومن لا يعزل، ومن هنا ارتفعت في وقت لاحق ومتأخر أصوات خبيثة بالحديث عن العمومية والخصوصية، من أجل إنقاذ أحمد شفيق من العزل المؤكد، بعدما استطاعت قوى الدولة العميقة أن تزيح رأسا من أقطابها هو عمر سليمان، الذي كان بحكم طبيعته التي تطبعها من مبارك الرزين قد أجل إعلان ترشحه حتى اللحظات الأخيرة، وحتى تنادت الجماهير به.

لكن هذه اللحظات الأخيرة نفسها كانت كفيلة بأن تسهل إصابته في مقتل، جعله يبتعد عن الصورة التي ظن أن مكانه في قلبها، بينما المشير طنطاوي يؤمن كل الإيمان بأنه لا مكان لسليمان فيها.

وكانت مبررات طنطاوي قوية، وإن لم يقتنع بها الجنرالات الآخرون من حيث كونها مبررات، وإن اقتنعوا بها من حيث كونها نتيجة وقرارا.

في هذه الأثناء كان رئيس الأركان سامي عنان جاهزا، لكنه لم يكن متحفزا في إعلان جهوزيته، وكان المشير طنطاوي حريصا من آن لآخر على أن يستنطق رئيس أركانه أنهما لا يريدان سلطة ولا رئاسة، وكان عنان بكل أدب يؤمن على سؤال المشير التقريري، وكأن ما أخذ بسيف الحياء فهو حرام.

أيضا وفي هذه الأثناء كان أحد الثعالب في المجلس العسكري حريصا بكل ما أوتي من قنوات سرية على أن يشوه صورة عنان، وجاء هذا التشويه متكررا دون جدوى، لكنه قرر في لحظة من اللحظات أن الأمر بات يتطلب معونة من دولة صديقة له تملك جهازا مخابراتيا قويا.

ومن الطريف أن هذه المخابرات المجاورة عقدت اجتماعات متكررة حتى توصلت إلى تكليف أحد عملائها البارزين بتشويه صورة عنان في عمل فني، وكانت هذه المخابرات حتى هذه اللحظة منخدعة تماما في مدى تأثير عميلها الأثير، وكانت تظن أن ما يروجه عميلها عن مبيعات كتبه وقيمتها أمر حقيقي، فإذا بالمفاجأة الصاعقة أن العمل الذي أنجزه عميلها من أجل القضاء المبرم على صورة رئيس الأركان صدر ووزع وزعم صاحبه أنه وزع طبعات تلو طبعات دون أن يشير قارئ واحد -دعك من كاتب واحد- إلى ما تضمنه العمل من هدم متعمد وخبيث لصورة رئيس الأركان.

وربما كان هذا هو السبب الجوهري في أن تلك المخابرات المجاورة اكتشفت بعد سنوات أن عميلها لم يكن إلا فقاعة كبيرة من صنع نفسه، ومن ثم فإنها لم تعد مهتمة به بعد أن أنفقت عليه وحمته ودعمته.

مع هذا فإن صورة عنان بقيت حتى جاء العهد الجديد، وخرج مكرما مع المشير على يد الرئيس المنتخب محمد مرسي، فلما جاءت أحداث الانقلاب بدأ المقربون الشبان من عنان يفكرون في أن يعيدوا مجدهم القديم من خلال إعادة مجد الرجل.

وهكذا كانت التحركات المبكرة عقب الانقلاب من صنع هؤلاء الذين كانوا يدركون أنها محاولة غير مضمونة، لأن النظام العسكري المصري لا يسمح بالصعود إلى الفرع الأعلى من الشجرة، وهذا الفرع ليس إلا لشخص واحد فقط.

ومع هذا فإن مديري المكاتب أو السكرتارية باتوا يكررون المحاولات المستميتة التي إن لم تستمر مع عنان، فسوف تتكرر مع شفيق، ومع أي بطل آخر مستعد من هؤلاء الذين كانوا قد أعلنوا نيتهم الترشح المبكر، ومنهم مجدي حتاتة رئيس الأركان، ومحمد علي بلال قائد القوات المصرية في حرب الخليج وغيرهم، وهم يعرفون أن الجيش المصري لا يعرف من معنى لفظ التوحيد ومفهومه وفكرته إلا معنى واحدا هو أن يكون البطل واحدا فقط، مهما كان اسمه ومهما كان رسمه.

تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت

ولقراءة المقال على موقع الجزيرة.نت اضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com