ورث الانقلابيون العسكريون في العالم العربي خبرة ناصرية مهمة تدفعهم دفعا إلى عدم الوثوق بالصحافة على الإطلاق، وهم يبنون غياب هذه الثقة على أسباب واضحة:
1- فالصحافة تفسر (حتي من دون قصد) كثيرا من خطوط العمل (السرية) التي تكون الدولة “الانقلابية” قد قطعت فيها طريقا مضمونا، وتأتي الصحافة وتجهض كل هذا الطريق الذي قد تفشل الدولة في استعادته بعد كشفه.
2- كذلك فإن الصحافة تظهر آراء وحلولا أخرى (أو معارضة) قد تكون أكثر إقناعا للجماهير.
3- وتسلط الصحافة الضوء على مناطق الانحراف القائمة على المحسوبية أو الاحتكارية، وهي جزء من مكونات الانقلاب في العادة.
4- وتنقل الصحافة للقارئ صورة عن الحياة الأخرى في بلاد أجنبية بحيث تكون النتيجة مع مرور الوقت حالة من تذمر المواطن من المستوى المتدني أو الأقل مما ينبغي أن تقدمه السلطة العسكرية أو الانقلابية.
5- بل إن الصحافة تكشف دون قصد مدى ضعف الأداء الشخصي والجماعي والفردي لسلطات الانقلاب.
6- وأخيرا فإن العائد المعنوي من تأييد الصحافة الرسمية (مهما كان) لا يتوازى مع الخسارة الناشئة من تحمل وجود الصحافة نفسها بوجودها الثقيل على النفس وأدائها المزعج للروح.
في مقابل هذا كله فإنه في الانقلاب العسكري المصري الأخير (على سبيل المثال) يدافع الإعلاميون والصحفيون عن صورتهم فيقولون إنهم الشريك الأساسي في نجاح الانقلاب فكرة وتنفيذا بما صوروه من أوضاع تستدعي الانقلاب وبما دفعوا إليه من تمرد، لكنهم في الواقع لا يكادون يتخيلون أن العسكريين لا يؤمنون أصلا بوجود هذا الدور الذي أشارت به الدولة السرية أو البدرومية التي كانت تحركهم بالريموت كنترول.
ذلك أن العسكريين يجدون أن ما تحقق على الأرض لا يمت للصحافة أو للإعلام بصلة وإنما هو نتاج جهدهم هم، فهم الذين قبضوا على الأبرياء وأودعوهم السجون والمعتقلات، وهم الذين قتلوا المعتصمين مرة ومرات دون أن يشترك معهم إعلامي أو سياسي في التحرك أو القبض أو القتل.
هكذا يتراوح النظر إلى موقف الصحافة والإعلام من موقف أساسي وشريك عند من يمتلكون الريموت كنترول، ومن موقف خبيث أو “ماكر” ومفضوح عند القوى الديمقراطية والإسلامية على حد سواء، ومن موقف شكلي ضرره أكثر من نفعه عند قادة الانقلابيين.
ومع الخروج التدريجي والمتوقع للمدنيين والإنقاذيين والبرادعي وغيره من تحالف الانقلاب يثبت الانقلابيون الكبار لأنفسهم يوما بعد يوم صدق مقولتهم التي ورثوها من أن الصحافة تضر بأكثر مما تنفع، وأنها سلاح ذو حد واحد مؤذ وليس حدين، وأن هذا الحد لا يعمل لصالح السلطة إلا إذا سيطرت عليه تماما.
وليس في الأمر سر يذاع إذا قلنا إن الرئيس عبد الناصر نفسه كان ينظر إلى الصحافة (حتى على مستوى رجالها المقربين منه) على أنها نوع من السكرتارية الخاصة جدا تعرض له ما يريد من أخبار لكنها تعرض له أيضا المحلات التي يمكن للأبناء(!) أن يشتروا منها ما يريدون أو أن يجدوا فيها الخدمات التي تليق بهم.
وليس من باب السر أن أبناء الزعيم خاصة أقربائه يحدثونك عن أن الأستاذ فلان هو الذي عرفهم بصالون الحلاقة الفلاني وبالترزي (الخياط) الفلاني في القاهرة، وبمحل الملابس الفلاني في لندن، ويرجع هذا إلى عقيدة العسكريين (وهي صحيحة) في أن أكثر الناس معرفة بالحياة هم الصحفيون، ولهذا فإن وظيفتهم في رأي “الأسرات العسكرية الحاكمة” ترتبط بالسكرتارية الخاصة في المقام الأول. والأخير أيضا.
ربما إني أطلت بعض الشيء في تشخيص حالة الرؤية المختلفة عما هو متوقع، ومع هذا فإني لا أحس أني نجحت في التصوير الكامل لهذه الرؤية المتكررة عند العسكريين، وربما أن تصور موقف السلطة الانقلابية الحالية من الصحافة يتكفل بإتمام هذه الصورة النشاز.
1- فالسلطة الانقلابية الحالية سعيدة كل السعادة بما أنجزته مبكرا في التعامل الخشن مع الصحافة، وذلك من قبيل قتل صحفي تابع لها تجاوز في نقدها تجاوزا تافها في الأيام الأولى للانقلاب دون أن يدري أنه تجاوز بإذاعة ما أذاعه، وهي ترى أن هذا الدرس كان نقطة فاصلة في العلاقة بينها وبين الصحافة، فقد تم القتل في غمرة الأحداث ودون أن تكون له دية!! لكن القتل أدب وهذب الصحفيين الموالين تماما.
2- والسلطة الحالية سعيدة كل السعادة بأنها استطاعت من باب التجني والتحدي الظالم أن تقبض على بعض صحفيي شبكة الجزيرة وأن تودعهم المعتقل ثم أن تجعل الدنيا كلها تتحدث عن هذا الوضع فتأخذ هي بغير حق فرصة ذهبية للوجود، هي فرصة الذي يشتكي من الإرهاب دون مناسبة، وهي تصل في التجني والافتراء إلى حد تصوير الصحفيين جواسيس! دون أن يهتز لها جفن.
3- والسلطة الانقلابية الحالية لا تخفي سعادتها من أنها أغلقت قنوات تلفزيونية وصحفا، وهو سجل لا يشرف أحدا، لكنها فخورة به إلى حد كبير في ظل الضوء الأخضر المعطى لها بتصفية ما يسمى بالوجود الإسلامي النشط.
4- والسلطة الانقلابية الحالية لا تكلف نفسها بأي وعد تجاه حرية الصحافة في مستقبل قريب، وإنما تعد بمزيد من الضبط والربط والتحكم في مسارات الإعلام في اتجاه وطني!! أي في اتجاه شمولي عسكري انقلابي.
5- ومع أن خارطة الطريق كانت قد وعدت بميثاق شرف إعلامي فإن الوعد كان ذرا للرماد في العيون فحسب، كما أن الإيمان بمثل هذا الميثاق لا يخرج عن حدود إيمان العسكريين المظهري الذي (لا يجاوز طرف اللسان) بأهمية أو جدوى الرأي الآخر الذي هو في رأيهم الحقيقي خيانة تستوجب الإعدام لا الإعلام.
6- والسلطة الانقلابية الحالية لا تخفي سعادتها بأنها تمكنت من النجاح في حالات الاختراق لبعض المنابر الصحفية والإعلامية خارج مصر بحيث أمكن لها من باب شركات الدعاية والإعلام أن تحقق بعض خطوات الدعاية الفجة لأدائها المظهري أو أن تمنع تدفق معلومات مهمة عن مخالفاتها وخطأ عرضها وسوء إدارتها لكثير من الملفات.
بل بلغ أمر استغلال النفوذ في هذه الجزئية أن السلطة الانقلابية تفاخر أمام مناصريها بسيطرتها على كثير من صناع الصحافة العرب والأجانب خارج مصر بسيطرتها على حركة دخولهم وخروجهم إلى مصر، وبخاصة إذا كانوا مصريي الأصل أو الزوجة أو على ارتباط بمصر في ماضيهم أو حاضرهم.
7- بل إن السلطة الانقلابية بدأت تزعم للمحيطين بها في القاهرة الآن أن درس الجزيرة الإنجليزية وصحفييها بدأ يؤتي ثماره، وأن كثيرا من الصحفيين العالميين سينقلون مكاتبهم من مصر، وأن كثيرين آخرين أيضا لن يأتوا مصر لأن مجيء الصحفي الأجنبي إلى القاهرة يمكن ببساطة أن ينتهي به إلى السجن سبع سنوات حتى لو أنه قبض عليه في أفخم فنادق القاهرة حيث يصعب التجسس.
تاريخ النشر : ٢٠١٤/٧/١٦
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
ولقراءة المقال على موقع الجزيرة.نت اضغط هنا