تاريخ النشر : ٢٠١١/٧/٧
تتمثل عبقرية أي نظام سياسي في قدرته علي وضع سياسات توزيع الدخل بما يحقق أهدافه العليا، فإذا كان الهدف الأعلي مثلا هو العدالة الاجتماعية فإن هذه السياسات تتوجه نحو صياغة علاقة بين ما يحصل عليه المواطنون وبين ما يحتاج إليه هؤلاء المواطنون دون أن يكون لهذا الذي يحصلون عليه علاقة بربحية المكان الذي يعملون فيه وإلا اهتزت قيم المجتمع اهتزازاً كفيلاً بالثورة من ناحية وبالفوضي من ناحية أخري.
وهذا هو جوهر ما حدث في مصر في السنوات العشر الأخيرة علي سبيل المثال
إذا أخذنا علي سبيل المثال المقارنة بين شقيقين قريبين من بعضهما البعض في العمر يعمل أحدهما في التدريس ويعمل الثاني في سلك القضاء، وقد بدأ كلاهما حياته الوظيفية منذ 25 عاماً ووصلا الأن إلي مشارف الخمسين، وقد وصل المدرس إلي وظيفة مدير مدرسة كبيرة في القاهرة وهو منصب خطير ومتقدم ويتمتع بمكانة اجتماعية هائلة أما شقيقه الثاني له في التخرج بعام واحد وفي الميلاد كذلك فإنه وصل إلي درجة نائب رئيس محكمة الاستئناف في الاسماعلية وينتظر أن يحل عليه الدور في العام القادم لينقل نائبا لرئيس محكمة الاستئناف في القاهرة (الدرجة فقط).
في حالة الرجل الذي يعمل بالتدريس وتولي هذا المنصب الإداري والتوجيهي الرفيع يقف دخل هذا المربي الفاضل عند رقم معين لا يعنيني هنا أن أذكره، ولكن يعنيني أن أشير إلي أنه لا يصل إلي 10% مما يتقاضاه شقيقه الأصغر الذي يليه في السن والتخرج كما أنه يليه في المسئولية الملقاة علي عاتقه من حيث حجمها..
وان كانت هذه المسئولية في جميع الأحوال أعلي وأعظم وأثمن من كل تقدير.
هذا المثل الذي ذكرته لا علاقة لأصحابه به.. كل ما في الأمر أن المستشار فاروق سيف النصر الذي تولي العدل ما بين 1987 و 2004 قد اجتهد اجتهادات متوالية ومتعاقبة ومتراكمة حتي وصل برجال القضاء إلي بعض (وأكرر كلمة بعض) ما يستحقونه علي حين انشغل الدكاترة فتحي سرور وعادل عز وحسين كامل بهاء الدين عن مثل هذا الجهد الموازي.
بذلت جهدي في التنبيه إلي هذه القضية في نهاية التسعينيات وبداية القرن العشرين وطالبت بحلول كثيرة كان منها كادر المعلمين الذي كتبت من أجله مجموعة مقالات، وكررت الإشارة اليه في كتابي «آراء حرة في التربية والتعليم»، ثم دافعت عنه وعن ضرورة الإسراع بتطبيقه في مواجهة تعنت الوزيرين اللذين وقفا في سبيل تنفيذه بكل ما يملكان من ألاعيب وحجج فارغة، وخرجت علي التلفزيون في مرتين متعاقبتين في يومين متتاليين في برنامج «البيت بيتك» ولجأت إلي التهديد بأن هذا الكادر جزء من برنامج رئيس الجمهورية الانتخابي..
ومع هذا كله فإن التطبيق الذي جري لهذا الكادر علي عهد يسري الجمل قصقص كثيراً من المزايا حتي إنه لم يصل بالمعلم إلي الحد الأدني للأجور وذلك علي النقيض مما كان يتمناه احمد جمال الدين موسي الذي بذل جهودا مضنية من أجل وضع الكادر وإقراره قبل أن يخرج من الوزارة في ديسمبر 2005.
هذا مثل واضح لمدي العبث الذي وصل إليه المجتمع المصري في سياسات توزيع الدخل، وهي قضية لا تقل أهمية في نظري عن «الدستور».
ولو أني خيرت بين سياسات عادلة لتوزيع الدخل وبين الدستور لاخترت الأولي، لأنها في حد ذاتها جوهر ما يطمح إليه الدستور ، و إلا تحول المجتمع إلي نموذج الثنائي عزيز بك الأليت والرجل ” الكحيان” الذي يحاوره في شئون الأميرة ديانا ومونت كارلو.
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا