في السنوات الأخيرة من عهد مبارك، تأكد عند الجماهير أن المسار الاقتصادي والإداري بدأ يطغى تماما على المسار السياسي، بل إنه أصبح منشئا ومحركا لمستقبل سياسي من طراز جديد لم تتمكن أدبيات السياسة بعد من وصفه.
ومع احترامنا الشديد للمبادئ السياسية الأولية من قبيل الحرية السياسية، والفكر الليبرالي، والتداول السلمي للسلطة، فإن مثل هذه المحددات أصبحت يومها تالية في الأهمية للقدرة على النمو، والقدرة على تقبل الاستثمارات، والقدرة على الإفادة منها، والقدرة على خلق فرص المشروعات القادرة على الإنعاش وتغيير الحالة العامة للشعب.
ومع هذا، فقد كان أبرز الأمراض الحقيقية التي أخذت تعوق النمو الاقتصادي الكفيل بتغيير صورة المستقبل في مصر، هو نمو مفهوم “دولة رجال الأعمال” بطريقة لم ينمُ بها من قبل في أي حضارة قُدّر لها أن تعيش أو تتطور.
وكان نمو هذا المفهوم بمثابة التطور الطبيعي للارتداد عن نمط اقتصادي لم يأخذ به أحد على نحو ما أخذنا به، سواء أضرّنا أم أفادنا، وهو مفهوم “رأسمالية الدولة” الذي كان أصدق تعبير عن التطبيق المصري للاشتراكية العلمية بطريقة خاصة جدا ناقضت أصول الاشتراكية نفسها.
وهكذا، فإنه على نحو ما أخطأنا من قبل في انتهاجنا نهجا خاصا تحت مظلة الاشتراكية، كان أقرب ما يكون إلى رأسمالية الدولة، بل كان كذلك بالفعل، فإننا بعد سنوات طويلة من تحول مرتعش عن الاشتراكية اندفعنا في خمس سنوات فقط إلى تأسيس مفهوم نقيض لمفهوم “رأسمالية الدولة”، وهو مفهوم “دولة رجال الأعمال”.
وكما أن رأسمالية الدولة لم تكن اشتراكية حقيقية، فكذلك فإن “دولة رجال الأعمال” ليست رأسمالية حقيقية، وإنما هي نمط مشوه من أنماط التفكير الاقتصادي الذي يصوغه أفراد لمصلحتهم في حقبة قصيرة الأمد، ويستفيد منه أفراد قلائل آخرون بأضعاف ما استفاد منه مَنْ صاغوه وأقروه، على حين تبقى جموع الشعب تنزف معاناة من هذا النظام القاسي الذي يرفع شعارات تبدو براقة، لكن بريقها لا يتعداها إلى جوهر النظام القائم.
وقد تجلت مظاهر حقبة “دولة رجال الأعمال” في تحميل رجال الأعمال المسؤولية عن كل شيء، وكان في هذا ظلم فادح للمجتمع ولهم على حد سواء، بدءا من حديث هامس عن دورهم في بناء مدارس جديدة، وهو دور بدأ محدودا وانتهى أكثر محدودية، ثم دورهم في التبرع للكوارث، وهو دور انتهى بالتشويه على يد الحكومة التي أساءت التصرف في ما وضع تحت أيديها لمجابهة الكوارث -وقد كان قليلا- ثم تضاعف الحديث عن المأمول من هذا الدور حين صمم رجال الأعمال على التدخل السافر في السياسة، وقرنوا هذا التدخل باستفادات قصوى لم يسبق لأحد أن حصل عليها في أي نظام اقتصادي.
وأصبح الناس يعتقدون أن رجال الأعمال لا يقبلون على العمل العام إلا إذا كان مرتبطا بفائدة ضخمة مواكبة لهذا الإقبال، وربما سابقة عليه، بل إن مشاركة بعض رجال الأعمال الكثيفة في المعترك السياسي الآن ليست إلا من قبل “غسيل الأفكار”، وهو مصطلح يتوافق في قسوته مع ما يعنيه مصطلح “غسيل الأموال”.
هذا النمط الجديد المطلوب في عصر “دولة رجال الأعمال”، نمط لا يعترف بالنجاح في مجال معين، أو في استثمارات معينة مهما كانت قيمتها، ومهما كانت قيمة النجاح فيها، لكنه يشترط أن يكون رجل الأعمال من الطراز المصري المستحدث لرجل الأعمال الكشكول أو الشامل ذي السمات الخمس الآتية:
السمة الأولي: يتاجر في الأراضي وفي مشروعات الإسكان، لأن هذا النمط هو نمط الاستثمار الأعلى في أذهان المحدثين الذين يعرفون أن القرب من الحكومة يكفل الحصول على امتيازات عقارية تترجم إلى أموال من خلال تحويل التراب المباح للخاصة فقط إلى ذهب يدفع فيه العامة الثمن الذي حصلوا عليه في مقابل مدخراتهم الذهبية.
السمة الثانية: يتاجر في الامتيازات لأنها طابع العصر الذي يعلي من قيمة دولة رجال الأعمال.
السمة الثالثة: يمتلك وسائل إعلامية من محطات تليفزيون وصحف خاصة، سواء أكانت هذه الملكية ملكية صريحة أم غير صريحة، مباشرة أم غير مباشرة، مطلقة أم نسبية.
السمة الرابعة: يمتلك موقعا سياسيا، سواء في حزب أو في تحالف، بل إن بعض رجال الأعمال بعد ثورة 25 يناير وبفضلها أصبحوا يملكون بالفعل عددا من الأحزاب والجماعات السياسية. وهو ما كنت قد توقعته وحذرت منه قبل الثورة بأربع سنوات.
السمة الخامسة: يمتلك أيضا مؤسسة تعليمية تتيح له أن يكون رئيسا لمجلس الأمناء، بينما يكون أحد الوزراء السابقين أو رؤساء الجامعات السابقين رئيسا تنفيذيا للجامعة، فيبدو أمام الناس أنه يعمل بإمرته وتوجيهه حتى لو لم يكن الأمر كذلك.
هنا ينبغي أن نتوقف لنسأل عن مدى قدرة مثل هذه الدولة على أن تقود “دولة وشعبا” كالمصريين وكمصر المعاصرة إلى التقدم؟
ومن المؤسف أن كل الظواهر تدلنا على أن هذا النمط غير قادر على النجاح، ولا على الوصول إلى أول طريق النجاح، والأسباب متعددة، ويمكن تلخيصها في سببين جوهريين ومجموعة أخرى من الأسباب الثانوية.
فأما السبب الجوهري الأول، فهو نقص الإدراك السياسي والمعرفي الذي هو أبرز ما يميز أغلب أفراد هذه المجموعة التي ارتبطت بها هذه الظاهرة، وإن كان هذا لا ينفي أن بعضهم يتمتع بفهم وذكاء، لكن هذا لا ينفي ظاهرة نقص الإدراك، وأن القيمة التي ترتفع بين هؤلاء في مناقشاتهم ليست إلا تعبيرا متطورا عن نقص الإدراك السياسي والمعرفي.
فالمفردات التي يتحدثون بها تكشف بوضوح عن أنهم يمارسون بأحاديثهم المنمقة ما هو أقرب إلى ممارسة مثقفي الصالونات الذين يأخذون مصطلحا من هناك، وفكرة من هنا، ويدمجونهما في حديث يبدو ذا رطانة، بينما هو كلام مفكك ينتقل عبر ألسنتهم فحسب.
وأما السبب الجوهري الثاني، فهو وضوح الانتماءات والعلاقات الخاصة بدرجة لا تتحملها عمومية السياسة والعمل العام، فهذه الصحيفة أصبحت معروفة بأنها لا تهاجم هذا الرجل أبدا، سواء أكان الرجل مسؤولا كبيرا أم رجل أعمال فحسب، وهذه المحطة التليفزيونية لا تسمح بتداول فكرة في هذا المحيط المحظور عليها بحكم الرقابة الداخلية، وهي رقابة فاقت في قسوتها كل الرقابات السابقة في زمن الحرب والثورة والشمولية.
وفي مقابل هذا كله، فقد أصبحت فكرة الدولة نفسها وأجهزتها ومؤسساتها بمثابة الكلأ المباح للهجوم عليه بشراسة من هذه الأجهزة الإعلامية التابعة لدولة رجال الأعمال.
ونأتي هنا إلى مجموعة العيوب القاتلة التي تكاد تكون معروفة للجميع:
أولا: أنهم لا يحبون بعضهم بعضا، ومن عادة الطبقات الرائدة أو القائدة أن تتميز بحب داخلي طبيعي في الغالب.
ثانيا: وهم لا يحبون زعيما تاريخيا بعينه ولا حقبة بعينها.
ثالثا: وهم بالتالي لا ينتمون إلى ثقافة سياسية معينة، فهم ليسوا وفديين، ولا سعديين، ولا نحاسيين، ولا ناصريين، ولا ساداتيين، وإنما هم خليط من محبة شيء من هنا وشيء آخر من هناك.
رابعا: وهم غير مستعدين للدفاع عن أي حقبة، ولا عن أي مبدأ، وإنما هم في نقاشاتهم السياسية عدميون تماما، يرون عيبا في كل حقبة، ويرون هذه العيوب كفيلة بتقليل إيمانهم بالتاريخ المصري الحديث والمعاصر مجتمعا، مع أنه يمثل الحقبة التي باتوا يتطلعون إلى المسؤولية عنها.
خامسا: وهم لا يؤمنون بمثل أعلى خارجي واحد، وإنما يريدون أن يجمعوا بين مزايا أوروبا جميعا، وأميركا وآسيا الجديدة أيضا، وهم يطالبون بكل ما تتيحه أميركا، وبكل ما تتيحه أوروبا، وبكل ما تتيحه آسيا الجديدة، مع أن كل حضارة من هذه تتيح أشياء وتمنع أشياء أخرى.
سابعا: وهم على غير استعداد للحديث عن روح المؤسسة المالية المنتمية للقانون، ولا عن قائمة أكثر رجال الأعمال تسديدا للضرائب، وإنما يتفاخرون في ما بينهم بالقدرة على الخلاص من الضرائب والجمارك وكافة الالتزامات التي يرون حرص الحكومة عليها نوعا من أنواع السخف الذي لا يرضيهم.
سابعا: ومعظم هؤلاء متفقون على ضرورة الخلاص من الجمارك والضرائب بإعادة تأسيس شركاتهم من آن لآخر للاستفادة من المزايا الجديدة.
ثامنا: لا ينظرون إلى أهمية اتحاد الصناعات أو اتحاد المستثمرين، أو ما شابه ذلك على أنه كيان يهدف إلى تحقيق مصلحة جماعية، أو روح وطنية، أو مهنية، أو فئوية، وإنما هو وسيلة أخرى للضغط على المسؤولين لمقابلتهم للحصول منهم على امتيازات جديدة.
تاسعا: ثم هم -وهذا هو أخطر ما في حيواتهم- ضعاف أسريا، فلا هم يربون أبناءهم على الجدية، ولا على حب مجال عمل الآباء، وإنما هم يعانون من استنزاف الأبناء الذين لم يتعودوا ضابطا ولا رابطا، وإنما تعودوا مظهرية كاذبة لا معنى لها غير الاستعراض.
تاريخ النشر : ٢٠١٤/٨/١٢
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
ولقراءة المقال على موقع الجزيرة.نت اضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا