تاريخ النشر : ٢٠١٤/٩/٢١
أثبتت الأسابيع الماضية أن المعايير التقليدية التي حكمت السياسة الدولية بدأت مرحلة الأفول، ولم يعد لها أن تحاول البقاء عن طريق التطور أو التحور،وإنما أصبح واجبا عليها أن تعترف بفشلها وأن تبحث لنفسها عن مخرج جديد يتيح لها أن تواصل العمل إذا أرادت الدول والمجتمعات المتمسكة بها أن تواصل الحفاظ على دور لها في المجتمع الدولي المعاصر.
عند هذه الجملة يمكن للقارئ أن يسأل مباشرة: وهل يحتمل أن أحدا من اللاعبين الدوليين يمكن له أن يتنازل عن دوره في الساحة المتقدمة من العمل السياسي الدولي؟
وهنا تظهر إجابة واضحة لم يتناولها أحد على الرغم من أنها لا تحتاج إلا إلى الاعتراف بالواقع وبالأمرين الواقع وغير الواقع، وتتمثل هذه الإجابة في القول إن قوتين عظيمتين حقيقيتين آثرتا في الأسابيع الأخيرة أن تبتعدا تماما وكلية عن معترك السياسة والنزاعات المحلية والدولية التي اندلعت في الفترة الأخيرة دون إعلان أنهما تترفعان على الحوادث والأحلاف والمواقف، وليس من الصعب أن يدرك القارئ أن هاتين القوتين لم تخسرا شيئا بسبب هذا الابتعاد المتعمد عن مواقف مربكة ومرتبكة إلى أقصى حد، وقد وجدتا أنه لم يكن لهما شأن في وصول الأمور إلى ما وصلت إليه، وليس لهما شأن أيضا في الوصول إلى وضع جديد من صنعهما بالذات.
ومن ثم فإنهما -من أجل مصلحتيهما- آثرتا الابتعاد عن وضع بدا لهما بوضوح أنهما بعيدتان عن مدخلاته ومخرجاته، وهذا حق إلى حد بعيد جدا، فلا اليابان ولا الصين دفعتا بأي أمر من الأمور إلى حالته الراهنة، ولا هما مستفيدتان من وضع معين من الأوضاع التي تسعى الولايات المتحدة وإيران وأوروبا الغربية والاتحاد الروسي بكل ما في وسعها إلى تجسيده على الأرض.
وهنا تبرز الفكرة القائلة إن الصراع الدولي الحالي قد استنفد كل أدواته، وهو قول صائب في جوهره حتى إذا لم يقبل كثيرون من صناع الساسة الكبار بدلالاته التي تعني ضمن ما تعني تقليص أدوارهم ومساحات حركاتهم وطبيعة سلطاتهم، ومع أن هذا القول صائب فإنه ليس دقيقا من حيث إن أدوات الفعل السياسي لا تزال وستظل تمثل ميدانا قابلا للتجدد مع الزمن، ذلك أن الهدف بطبعه خالق للأداة، وهكذا تتخلق أدوات إستراتيجية أو سياسية جديدة عندما تفقد الأدوات الحالية أو القديمة فعالياتها أو مضاءها أو عمرها الحي.
ومن الطريف في هذا الأمر ما يقال إن قائد المركبة هو المسؤول أو المكلف بتحقيق انتقالي أو انتقالك أو انتقالنا من مكان إلى مكان سواء في ذلك الطيار المدني أو قائد المركبة المزركشة التي يجرها الحصان الواحد أو عدد من الأحصنة على نحو ما هو متبع في البروتوكولات الاحتفالية البريطانية التي تمثل الصورة الباقية من مهابات العلاقات الدولية، فالطائرة و”مركبة الحوذي” تتفقان في النهاية أمام معايير التقييم التي يعهد إليها الإستراتيجيون بتقييم وقياس كفاءة فعالية “الأداة” في تحقيق الوظيفة أو “المهمة” المطلوبة.
ويمتد مثل هذا التشبيه ليجمع بين الحرب والمفاوضات في صعيد واحد كأدوات لتحقيق الإستراتيجية، وليجمع بين حفلات الدبلوماسية وخطب التهديد في صعيد واحد أيضا كأدوات لتحقيق الإقناع، وليجمع ثالثا بين توظيف المال أو الأموال وتوظيف القوى الناعمة كأدوات لتحقيق الإيحاء المطلوب بقدرة الخصم على إخضاع خصمه.. وهكذا.
وفي كل هذه الأحوال فإن المجتمع الدولي المعاصر أصبح يلحظ بكل وضوح ميلا حثيثا إلى التخفف من الأقنعة الجميلة التي اعتاد اللجوء إليها في العقود الخمسة الأخيرة، وذلك في مقابل الانتصار لفكرة العودة إلى نوع من الصراحة الملطفة أو الأكاذيب المنمقة بديلا عن القناعات المستهلكة، أو النظريات المكررة.
وقد بدا بوضوح في الأسابيع الماضية أن الولايات المتحدة تقود عن عمد -تقول عنه إنه اضطرار- التوجه إلى هذه الصراحة المعبرة عن مشكلات نفسية جمعية لم تستطع أن تتخلص منها على الرغم من قدرتها على هذا التخلص، والأمثلة عديدة على تململ الضمير الأميركي من استعمال الأقنعة واللجوء إلى السفور.
(1) كان الموقف من بشار الأسد يوحي -عند من يتمنى- بأن الولايات المتحدة تنحاز للديمقراطية وحق الشعوب وحقوق الإنسان نفسها، لكن وبعد شهور من ارتداء هذا القناع فضلت تلك القوة العظيمة الميل إلى القول بخوفها من أن تؤدي إزاحة بشار إلى تقوية حركة الإخوان المسلمين، ومن ثم فإنها بدأت تبحث عن حل يستهدف في المقام الأول إيذاء الإخوان المسلمين وتوهينهم في تركيا ومصر قبل أن يصبحوا قادرين تماما على قطف ثمرة بشار أيضا وهي خطوة لم تكن بعيدة.
(2) مرة أخرى كان الموقف الأميركي من استعمال بشار الأسد السلاح الكيميائي بمثابة ترجمة حقيقية لفكرة أن أوباما لا يريد خلق حالة مجد أميركي بقدر ما يخشى من أي اختلال مادي كبير في قواعد ووقائع اللعبة، وهكذا قبل أوباما في مواقف متتالية بإعطاء قدر متنامٍ من أمجاد متعددة للروس والإيرانيين والمعارضة البريطانية والدعاية الإسرائيلية وتراجع عن خطوة إيجابية وأخلاقية بل وبراغماتية أيضا، من حيث كانت كفيلة مثلا برفع قيمة الدولار في سوق الصرف بما يحل له كل مشكلاته الاقتصادية.
(3) مرة ثالثة كان الموقف الأميركي من نوري المالكي وجبروته مثالا بارزا على الانتهازية غير الأخلاقية وغير المبررة مرتين متتاليتين في شهر واحد، وقد أكدت المواقف الأميركية على هذا المعنى مرتين وليس مرة واحدة.
فقد ذهبت أميركا في دعم نوري المالكي وتكليف حلفائها -بقوة وإلحاح- بدعمه ماديا ولوجستيا ودعائيا ومعنويا إلى أبعد مدى ذهبت إليه في دعمها لأي حليف من الطغاة، وكان هذا الدعم -الذي مورس سرا بأكثر مما مورس علنا- بمثابة إجراء مستفز وضد كل المبادئ والأعراف.
ثم وعلى حين فجأة تخلت الولايات المتحدة عن المالكي بأسوأ صورة يمكن لها أن تقدمها للعالم وللداخل الأميركي نفسه، ولم تراعِ أي شعور للطاغية الحليف ولا أي قدر من حفظ ماء الوجه، وقد فعلت هذا دون حتى أن ترفع قناع إرادة الشعب -الأميركي أو العراقي- أو إرادة الأغلبية هنا أو هناك، وإنما قدمت الأمر على أنه بمثابة إنهاء خدمة موظف أمن فاشل لا يستحق حتى خطاب شكر روتيني.
(4) مرة رابعة تكرر موقف الولايات المتحدة من المالكي في ما فعلته مع السياسي الإسرائيلي النزق بنيامين نتنياهو من دعم غير نهائي وصل إلى تزويده بأسلحة لم تستعمل من قبل من أجل أن يقهر شعبا هو تقريبا “أعزل” من السلاح، وتمادت الولايات المتحدة في الضغط على حلفائها، ثم إذا بالولايات المتحدة نفسها في ما أذيع بعضه وما لم يذع أغلبه بعد تتوسل إلى أصدقاء آخرين لإنهاء الوضع على أي صورة لأنها لم تعد قادرة على تحمل صيحات نتنياهو الهوجاء التي يتوجه بها إلى ناخبيه، ولا مقترفاته الرعناء في حق الأطفال بما مثل استفزازا للعالم كله حتى من تواطأ، ولا فشله المتكرر في تحقيق أي نصر يبرر الاستمرار في دعمه من أجل ما قيل من دعم الانقلاب في مصر وتأمين وجوده، مع أن الولايات المتحدة نفسها وليس غيرها هي التي دفعته إلى هذا الطريق رغم تحذير أقرانه الإسرائيليين المتكرر له من مغبة ما يفعل.
(5) مرة خامسة بدأت الولايات المتحدة تكرر الدور نفسه في التجريب الشاق والقاسي والمتمادي لسلاح التدخل العسكري المنافي للعسكرية والمنافي للإنسانية، والمنافي للقانون الدولي، مع ارتداء قفاز الإخفاء الذي يكفل لها البعد عن الاتهام، ومن سوء حظها أن إجراءاتها في هذا الصدد -وبالتحديد في سماء العراق- سرعان ما أثبتت فشلا ذريعا، خلفه فشل آخر هو تورطها الدامي في القضية المستورة التي أدت في النهاية إلى ذبح جندي أميركي بيد مواطن بريطاني بسكين عراقي أمام إعلام غربي، وقد سحرت الدراما التي شاركت أميركا نفسها في صناعتها أعين الأميركيين لكن السحر ترافق مع ضجر من أسلوب الساحر!
(6) بعد كل هذا بدأت الولايات المتحدة -من خلال حلفائها في مصر- في صناعة فوضى جديدة في ليبيا من خلال تدخل جوي وأرضي تنفيه مصر والإمارات وتؤكد الولايات المتحدة حدوثه، بينما التدخل يؤذي مصر والإمارات ويصب في مصلحة الولايات المتحدة.
ويمثل ذلك حالة من التلبيس والإلباس المكشوف كان المصريون يعرفونها في قدامى الملاك الزراعيين الذين يتظاهرون بالورع، بينما يسلطون اللصوص على صغار الفلاحين وثرواتهم الحيوانية ويتبرؤون من فعلهم، بينما هم يولمون الولائم بشراء الأنعام التي اغتصبها اللصوص من المزارعين الصغار وتقاضوا مقابلها شراء وتشجيعا من كبار الملاك.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
ولقراءة المقال على موقع الجزيرة.نت اضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا