اشرت في مقالي الذي حاولت فيه تلخيص قصة قضية فلسطين الي حاجة تلك القضية الي انجاز من قبيل انجاز العاشر من رمضان ، ولا اظنني كنت مبالغا فالذين درسوا التاريخ وتأملوه يدركون أن ازهي انتصار للقضية الفلسطينية كان في الفترة التي عاشتها عند اندلاع الانتفاضة الثانية حيث عاشت القضية في ظلال قوة الشعب المكافح أزهي عصورها بلا أدني مبالغة، ولم يحدث في تاريخ هذه القضية أن وصلت الإرادة ولا الإدارة إلي ما وصلت إليه في تلك الفترة ، مهما بدا من قسوة الثمن وفداحة المقابل من الأرواح والأبدان، ويدفعني إلي تقرير هذه الحقيقة عدة ظواهر واضحة لا يمكن لنا أن نغفلها، ولا أن نتغاضي عن القراءة الجديرة بها:
(1) ففي 2002 و لأول مرة حارب الشعب الفلسطيني بمفرده وعلي أرضه هو، ففي كل جولات الصراع العربي ـ الإسرائيلي كانت هناك جبهة أو جبهات تتولاها قيادات عربية من هنا وهناك، سواء تعددت هذه الجبهات لتشمل جيوش الدول العربية المستقلة جميعا علي نحو ما حدث في 1948، أو تفردت (مقتصرة علي مصر) في 1956 وحرب الاستنزاف، أو كانت ثنائية (مصر وسوريا) علي نحو ما حدث في 1973، أو ثلاثية (مصر وسوريا والأردن) في 1967. أما في 2002 فإن الفلسطينيين كانوا يحاربون وحدهم والعدو من أمامهم ومن خلفهم ومن تحتهم ومن فوقهم وعن يمينهم وعن يسارهم، ومع هذا فإنهم كانوا يحرزون النصر تلو النصر، ويلقون بالرعب في أفئدة العدو.
ولو وفق الله الانتفاضات الفلسطينية للاستمرار في 2002 بنفس قوة الدفع لمدة ثلاثة شهور اخري، فقد كان هذا كفيلا بالا يبقي في إسرائيل كلها عُشر سكانها، وبان ينشغل المجتمع الدولي من خلال منظمات اللاجئين في توطين سكان إسرائيل في كندا واستراليا وجنوب إفريقيا ونيوزيلندا، فضلا عن بعض الولايات المتحدة الأمريكية.
(2) في 2002 ولأول مرة حارب الشعب الفلسطيني بينما توجد قيادة في داخل أرضه في رام الله، ولا يمكن إغفال المقارنة بين هذا الوضع والأوضاع السابقة حين كانت هذه القيادة في بيروت أو تونس أو دمشق أو عمان، أو حين لم تكن هناك قيادة علي الإطلاق، ولا يمكن لأحد أن ينتقص من قيمة هذه المزية المعنوية الهائلة، وقد تقبل الرئيس ياسر عرفات وقتها النصيحة القائلة بالبقاء في وطنه وعدم الخروج، ومن ثم بقي ياسر عرفات في رام الله بمثابة قلب وعقل للفلسطينيين، يتوجهون إليه، ويحيطون به، ويسعدون بوجود قيادتهم بينهم.
واظن ان هذا الموقف من عرفات هو الذي كلفه حياته لانه اثبت زعامته وثبتها بما لا يكن متاحا بمثل هذه القوة ، ولهذا فإن الحركات الفلسطينية المختلفة كانت عند حسن الظن بها في ذلك الوقت ولم تفكر إلا في الالتفاف حول عرفات ورفع راية الوحدة والاتحاد فوق كل راية أخري لرأي أو فكر..
ولهذا شعر كل الفسطينيين بأن هناك ما يجمعهم علي قلب رجل واحد من أجل وطن واحد طال اغتصابه.
(3) في 2002 و لأول مرة ظهر للمتأملين وللمنصفين من قراء التاريخ العربي المعاصر مدي الفوائد التي حققتها المساعي السياسية والدبلوماسية السابقة، فإلي اتفاق أوسلو وما تلاه يرجع الفضل في أن أصبحت لفلسطين حكومة وقيادة وسلطة داخل الأرض الفلسطينية نفسها، وبعيداً عن أرض الشتات وعن سيطرة وتوجهات الحكومات العربية الأخري التي تقيدها التزاماتها ومصالحها. وهو الوضع الذي جعل الفلسطينيين يتخذون رغم أنوفهم مواقف حادة حسبت ضدهم وأساءت إلي صورهم في عقود سابقة، سواء في هذا الموقف من غزو العراق للكويت (1990 ـ 1991)، أو الانضمام إلي جبهة الصمود والتصدي في محاربة مصر قبلها بأكثر من عشر سنوات (1978)،
وفي تلك الأجواء لم يكن القرار الفلسطيني حرا تماما، أما في 2002 فقد كان الموقف الفلسطيني حرا إلي النهاية وإلي الأعماق، حتي لو كانت السلطة الفلسطينية نفسها محاصرة بالفعل والاسلاك في رام الله.
وهكذا تأكد للجمهور العربي أن الحرية ليست حرية الحركة، وإنما هي حرية الإرادة، فبحرية الإرادة تواجه فلسطين كل جحافل البغي والعدوان دون أن تغل القيود المادية يدها عن التصدي للهجوم الظالم بكل ما في مكنتها مهما بدا ضيئلا وغير متكافئ.
(4) في 2002 و لأول مرة ظهر التورط الأمريكي واضحاً جلياً مشرقاَ مضيئاً بكل ما يحمله من سوء النية وخبث الطوية، وليس بمقدوري أن أتجاهل تكرار ما سبق أن كررته كثيرا من أن استفادة أمريكا من إسرائيل تفوق استفادة إسرائيل من أمريكا بمراحل، وأرجو الله سبحانه وتعالي أن نؤمن بصواب هذه الحقيقة التي نتغاضي عنها أو نحاول التغاضي ونظن أنفسنا قد أدركنا الحقيقة بينما نحن نعيش صورة مغلوطة من صنع البعض منا، فإسرائيل لا تكلف أمريكا إلا بمقدار ما تكلفها حاملة طائرات أمريكية ضخمة تتمركز في البحر الأبيض المتوسط، ولكنها تقوم لأمريكا بدور كبير جداً يمكن تقريبه لأذهان القراء بأنه دور البلطجي الذي يحمي علب الليل، أو البلطجي الآخر الذي يوظفه رجال الأعمال الفاسدون، أو البلطجي الثالث الذي يحظي برعاية العمدة أو السلطات المحلية لأنه مرشد مستتر،
ويبدو لي أن ادراك هذه الحقيقة كفيل بفتح أعين العرب والمسلمين والفلسطينيين علي حقيقة العدو الذي يواجهونه، وهو العدو الذي غذي إسرائيل بالدبابات الحديثة محمولة بالطائرات إلي مطار العريش في ساعات قلائل في أثناء حرب أكتوبر1973 ، في أقصي محاولة بذلت لمحاولة إجهاض نصر مبين لم يتوقعه أحد، ولم تدرك جوانب العظمة فيه حتي الآن.
يمكنكم الاستماع إلى المقال عبر قناتنا الصوتية من هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا
حقيقة ان امريكا هي المستفيد الاكثر من اسرائيل جديدة علي، وشكرا ع المعلومات القيمة…