يبدو لدارسي التاريخ ان قضية المسلمين الأساسية في القرن العشرين كانت هي «فلسطين»، ويبدو أنها ستظل بمثابة القضية الأساسية في القرن الحادي والعشرين. ذلك ان الألفية الثالثة بدأت بأن فرضت أسوأ الظروف علي الشعب الفلسطيني، وهي ظروف استثنائية في كل شيء، ولم يقدر لشعب أن يواجهها علي هذا النحو الشجاع الباسل الذي حاول به الفلسطينيون التصدي لآلة عسكرية وإرهابية جبارة، مضيفين بذلك إلي رصيد هائل من الصمود والاستبسال علي مدي الثلثين الأخيرين من القرن العشرين منذ بدأت في 1936 «الخطوات التنفيذية الرامية» إلي تمكين الإسرائيليين من وضع ما علي أرض فلسطين.. وعلي مدي هذه السنوات تحول الوضع ما إلي وضع ما آخر حتي وصلت الأمور إلي أحرج مواقفها .
وعلي الرغم من هذا فإن إيجابيات المواقف الفلسطينية الداخلية آخذة في التصاعد، ويكفي أن حماس وجهاد استجابتا أكثر من مرة لنداء العقل.. . ويكفي أن الفلسطينيين وأنصارهم في كل مكان أصبحوا يواجهون الواقع بشجاعة حقيقية وبكل جزئياته ولا يقفزون عليه ولا يتجاهلونه، ولا يهونون من قدر قوة العدو أو منطقه.
ومع هذا ففي وسع الإنسان أن يتأمل القضية الفلسطينية من منظور الجيلين المتعاقبين، فالفترة منذ 1936 وحتي الان في 2012 وهي 76 عاماً تكفي لأن يخرج علي التقاعد موظف كبير لم يكن قد بدأ حياته بعد. سواء كان هذا الموظف دبلوماسيا أو عسكريا أو صحفيا من المشتغلين بالسياسة.
ومع الإيمان بأن القضية نشأت كنتيجة لتصرفات مشبوهة من الاستعمار البريطاني، ثم لتصرفات أكثر شبهة من الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن الحقيقة التي لا ينبغي أن تغيب عن أذهاننا أن جهل العرب (بالمعني العام للجهل) كان بمثابة العامل الأكثر خطورة الذي أدي إلي تفاقم القضية علي نحو ما أصبحت عليه، وإلي مضاعفة الخسائر الناشئة عنها، وإلي تعقد القضية نفسها بحيث أصبحت قضية متعددة الأطراف.
تمثل جهل العرب في محاور متعددة، منها عدم إدراك قواعد إدارة الصراع الدولي بحيث غابوا ـ علي سبيل المثال ـ عن كثير من التجمعات واللقاءات الدولية التي كان من الممكن لهم أن يثيروا أمامها قضيتهم. وعلي حين كان المصريون قد تمكنوا بفضل ثورة 1919 (وماتلاها) من أن يصلوا إلي موقف الند القانوني لبريطانيا العظمي علي نحو ما حدث في معاهدة 1936، أو في المفاوضات المتعددة التي سبقتها (في 1930 علي سبيل المثال)، فإن الفلسطينيين للأسف الشديد كانوا لايزالون ضحايا نوعين من التشرذم: التشرذم الداخلي حيث لم يجدوا الزعامة التي تجمعهم بقوة وعزم علي نحو ما فعل سعد باشا زغلول في مصر، والتشرذم الخارجي حيث كانت هناك أكثر من دولة عربية تعتقد في أحقيتها أو في أفضليتها من حيث المسئولية عن فلسطين وشعب فلسطين.
كذلك فان الرأي السياسي العام الذي كان موجوداً في مصر لم يكن موجوداً في فلسطين بنفس القوة.. ونحن نري الزعماء الفلسطينيين السياسيين ينقسمون علي أنفسهم (في 1936) فيما يتعلق بفكرة القبول بمجلس تشريعي يطرحه البريطانيون عليهم.. ولكن أحداً من هؤلاء الزعماء السياسيين لم يكن ليستطيع أن يفرض رأيه، سواء بالأغلبية أو بزعامة الشعب (كالنحاس باشا)، أو بالدكتاتورية وحزب أقلية (كإسماعيل صدقي ومحمد محمود)، أو بالاستناد إلي القصر وحزب صناعي (كأحمد زيور باشا).. بل ربما ندرك من قراءة صحافة 1936 مدي جدوي وجود «قصر» أو «سراي» في مصر في ذلك الوقت، فقد ساعد هذا الكيان (المكروه أو المتحفظ عليه علي أدني تقدير) علي أن تكون هناك مقومات واضحة المعالم لدولة لم يكن من السهل علي «الصهاينة» أن يتصوروا أن بإمكانهم أن يحققوا فيها بعض ما حققوه في فلسطين المنكوبة.
كان الحديث الصحفي (في الثلاثينيات) عن الشعب الفلسطيني يصوره علي أنه مجموعة من الثوار ذات أهداف متناثرة تهاجم الجنود هنا وهنا.. الجنود هم جنود المستعمر البريطاني الذي لم يكن قد رفع يده بعد عن أرض فلسطين.. حتي نتذكر التاريخ بحقائقه فقد رفع هذا الاستعمار الخبيث يده عن فلسطين صباح يوم من الأيام (كان محدداً من قبل ومعروفاً)،ودخلتها العصابات اليهودية بتشكيل شبه رسمي كأنه تشكيل «الدولة» في اليوم التالي.. وطبعا هذا لا يتحقق إلا بين لصوص محترفين يخلي أحدهم مسئوليته عن المسروق لسارق آخر!! وهذا هو جوهر ما حدث هذا في مايو 1948.
في كل الأحوال كانت أنشطة الثوار محدودة التأثير، حتي وإن كانت متعددة المواقع هنا وهناك.. ولكنها في النهاية لم تكن لتكفل الأثر القادر علي أن ينتصر للحق، بل ربما أكدت للمراقبين الدوليين (العكس) وهو أن هذا الشعب بحاجة إلي قوة قاهرة تتولي أمره (!!) وتنهي هذه المصادمات، وكان من الواضح أيضا أن أحداً في المجتمع الدولي لا يرحب بمنح إمارة شرق الأردن إمكانات تساعدها علي السيطرة علي فلسطين ولا عن الدفاع عنها.. وذلك لكي تبقي شرق الأردن إمارة صغيرة.. ولتبقي فلسطين أيضا بمثابة لقمة سائغة للصهاينة.
من جانبهم فإن العرب وضعوا حدوداً قصوي لمشاركاتهم… فلم يفكر أحد في أن يقدم لفلسطين أكثر من العون الذي يقدم إلي الجار، وانخرط العرب جميعاً في الترحيب غير المعلن بأدوار اتهام الذات وجلد الذات وتوزيع الخيانة علي أنفسهم، مع أن القضية كانت أكبر من خيانة هذا أو ذاك.. ولا تزال كذلك!!
وعلي حين نتعجب من قسوة سعد زغلول علي معارضيه في 1919 و1920 و1921، فإننا نتمني لو كان ظهر في فلسطين سعد زغلول فلسطيني يقسو علي الآخرين حتي يواجه «العدو» الجديد والقديم بشعب واحد يجتمع علي قلب رجل واحد.. ويحقق بالتدريج والتتالي كل ما يصبو إليه من استقلال تام، سواء تم هذا علي يد عبدالخالق ثروت في 1922، أو النحاس في 1936، أو ضباط الثورة في 1954.
وفي كثير من صحف مصر الصادرة في 1936 صورة تدلنا علي أن إيدن الذي حضر الحفل الخاص بتوقيع المعاهدة مع النحاس باشا، كان هو نفسه الذي بقي قريبا من صدارة السياسة البريطانية (وإن لم يكن بقاؤه متصلا وإنما كان متقطعا بالطبع تبعا لفوز حزبه أو عدم فوزه في الانتخابات) حتي قاد تحالف العدوان الثلاثي في 1956، وسقط بعدها من صدارة السياسة البريطانية بعد أن وصل إليها بعد طول انتظار. ومن الطرائف أنه في سنه الكبير كان قد وقع أسيراً لفكرة إظهار عظمته أمام زوجة شابة كان عمها هو ثعلب السياسة البربطانية العجوز ونستون تشرشل (!!) وهو في ذات الوقت سلفه في رئاسة الوزارة والحزب الذي كانا ينتميان إليه.
وكما لم تفلح عشرون عاما من 1936 إلي 1956 في إبعاد إيدن عن مكانه بين صفوف الساسة في بلاده.. أيضا لم تفلح عشرة شهور من ديسمبر 1935 إلي سبتمبر 1936 في أن تصل بالفلسطينيين إلي تكوين رأي فيما يتعلق بمشاركتهم أو عدم مشاركتهم في مجلس تشريعي قررت بريطانيا إنشاءه، وكانت حكومتها هي التي تتولي حكم فلسطين قبل أن تترك الأموربطريقة مريبة وتمضي.. كانت هناك إذن في فلسطين حكومة احتلال بريطانية تمثل الدولة المحتلة.. وهي فكرة مختلفة بالطبع عن فكرة المراقبين الدوليين التي نادي البعض بها في 2001، ولكن الذي يجمع بين الفكرتين هو القبول بفكرة وجود طرف ثالث علي أرض يجري عليها النزاع بين أصحابها الأصليين، وبين أشخاص جدد يدعون ملكيتها بالزور والبهتان.
ولا أظن أن فلسطين تحتاج حلا من هذا النوع، لكنها في رأيي لا تزال تحتاج حلاً من طراز العاشر من رمضان.
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا