تاريخ النشر: ٢٠١١/٩/١١
كان لنا صديق لامع إلى أعظم الحدود ولا أقول إلى أبعد الحدود فقد كان من الذكاء بحيث حافظ على اللمعان وعلى ميادين اللمعان وبرغم تعدد هذه الميادين فإنه لم ينجرف إلى أى موقف من مواقف النجوم التى تحتسب عليهم
كان ذكيا قادراً ملماً فاهما مبدعاً معبراً منتجاً وكانت كل المعطيات ترشحه لمناصب عليا، لكنه كان على عكس توقعنا حريصا بدأب على أنواع متعددة من التقدير السامى ليس من بينها المناصب، وقد حصل بالفعل على ما كنا نظن أنه كل التقدير السامى الذى كان متاحاً فى وطنه.
وفى إحدى سهرات دُفعتنا.. سأله واحد من أصدقائه المقربين عن السبب الذى يجعله بعيداً عن المناصب مع أن كل المعطيات تشير إلى تكرار قربه منها.. ابتسم صاحبنا ولم يحاول المراوغة فى إجابته، وإذا به يقول إنها نصف نبوءة! سألناه جميعا وكلنا شوق إلى هذا النصف وإذا به وهو القادر على التحليق بمستمعيه يروى لنا قصة النبوءة التى سمعها الرئيس مبارك فى نهاية الخمسينيات من عراف سودانى بأنه سيكون رئيسا لمصر، وكيف أن الطيارين من زملاء مبارك تعاهدوا وصدقوا العهد بألا يفشوا هذا السر.. وقد تحققت النبوءة بعد أكثر من عشرين عاما وهم لا يكادون يصدقون.. ومن طبع النفس البشرية أن ترتاح لما يحمل لها البشرى، ولهذا كان مبارك منذ ذلك الحين يرتاح إلى التنجيم، وحدث أن إحدى العرافات قالت لمبارك إنه سيترك الرئاسة بعد أن يعين نائبا له بأيام قليلة.. وهكذا ظل مبارك طيلة أكثر من 29 عاماً حريصا على ألا يعين نائبا له، وكان يراوغ فى الإجابة حينما يطرح عليه السؤال عن السبب فى تأجيله مثل هذا القرار.
قال أصدقائنا لزميلهم الذى كان قادراً على التحليق بهم فى مثل هذه الأسرار، وما علاقتك أنت بهذا الموضوع؟ هل جاءتك نبوءة أنك تفقد شيئا بعد أن تتولى منصباً؟ هل تظن أنك قادر على أن تؤجل ما هو مكتوب لك؟ هل لو قدر لك أن تموت بعد شهر من الآن تستطيع أن تغير القدر؟ وأخذ أصحابنا يضحكون وهم ينتقلون من فكرة إلى أخرى حول هذا المعنى الشائع الذى تداولته أعمال أدبية وفنية كثيرة ولم يكن أحد يتوقع أن يستمع إلى الإجابة التى استمعنا إليها فى تلك الليلة، قال صاحبنا: أنتم تعرفون حجم غرورى.. قال أحدنا: إننا نعرف إنه بلا حجم قال صاحبنا: ولهذا يهيىء لى غرورى أن أشرح ما أريد أن أفعله فى كل منصب يعرض علىّ، قال أحدنا. وهل تريد أن تقنعنى بأن الذى يريدك معه فى منصب سيتراجع إذا اكتشف أن لك برنامجًا؟ قال صاحبنا: من الطبيعى أن يتراجع حين يرانى أهدد وجوده هو نفسه فى منصبه، قال أحدنا: وهل أنت تعدم الذكاء أن تخفى مشاعرك المهددة للآخرين والقاتلة لك أنت نفسك؟
قال صاحبنا بعد طول ممانعة: يمنعنى نصف النبوءة الذى حدثتكم عنه، لقد فوجئت ذات يوم بمن يجذب يدى ويعطيها لآخر ويسأله أن يقرأ طالعى وهو يوحى إلى قارئ اليد أن طالعى مبهر لكن قارئ الكف سرعان ما اكفهر وانزعج وكاد يركض جرياً، وهو يقول: أعوذ بالله.. أعوذ بالله.. يا هذا لا تعمل إلا مع من يحبك كما يحب نفسه.
قال أحدنا: لقد كنت أظنك أعقل العقلاء حتى رويت هذه القصة فأدركت أنى كنت مخطئا.. كم دافعت عنك فى وجه الذين كانوا يرون أن بك بعضاً من الجنون.. ويبدو أنهم كانوا على حق.
وقال آخر: أنا على العكس تماماً لقد كنت دائم الاعتقاد أنك مجنون إلى حد ما ولم أدرك أنك أعقل العقلاء إلا الآن.. يا سيدى دعك من أن النصيحة جاءت على هيئة نبوءة طائرة.. لكن تذكر أن هذه هى أصدق نبوءة تصادف حالك.
وقال ثالث: يا سيدى إن الصعود لا يتحقق مرة واحدة إلا نادراً، وأنت تفوت الصعود بسبب أن درج السلم غير منتظم مع أنه يكفل لك الصعود.. ولو كنت صعدت منذ أتيحت لك الفرصة لكنت الآن أكبر من النبوءة نفسها.. يا صديقى اجعل النبوءة تسير وراءك ولا تجعلها تسير أمامك.
قال صديقنا اللامع: دعونى وشأنى وفكروا معى فى مستقبل وطنى إذا كان هذا الهاجس هو المسيطر على رئيس الجمهورية فيما يتعلق بمستقبل الوطن من بعده.
رد عليه أحدنا وقال: أتكون أنت النائب الذى بُشر بنصف نبوءة؟
وقال الثانى: أم أنك أنت العراف؟
وقال ثالث: أراهنكم أنه سيفاجئكم بالقول بأن للنبوءة جزءاً غير معلن وهو أن النائب سيفقد هو الآخر منصبه مع الرئيس فى ذات اللحظة.
قال صاحبنا موجها حديثه للثالث: المعطيات تقول إن رؤيتك هى الصواب بعينه، فلا يمكن لأيام معدودة أن تهيء نائباً لأن يتولى الرياسة بمشروعية تلك الأيام المعدودة.
وبعد عدة شهور وقعت حادثة أديس أبابا التى تعرض فيها مبارك للاغتيال، وفرض الحدث نفسه على لقاء الدفعة، وبدأ أحدنا بالحديث عن أهمية وجود النائب وثنى آخر بضرورة أن يفاتح أحدهم الرئيس فى هذا وقال الثالث إن الذى يفاتح الرئيس فى مثل هذا الموضوع سيكسب عداوته للأبد، وربما يفقد حياته، ذلك أنه يذكر الرئيس بما لا يحب أن يتذكره أبدا، وقال رابع: إن زخم الاحتفالات لن يسمح للرئيس بالتفكير فى عداء من يقوم بهذا الدور.
ثم مضت الأيام، عاما بعد عام ونحن نعود لهذه القصة من حين لآخر، حتى سمعنا أن صاحبنا قد قبل لتوه أن يعمل فى منصب رفيع، وإذا به يأتى إلينا فى حفل الدفعة ويقول إنه اعتذر، ولم تمض أيام حتى جاءت نهاية عهد مبارك، وإذا بالنبوءة القديمة تتحقق وإذا بتقدير صاحبنا يتحقق أيضاً، وإذا له هو نفسه مرشح مرة أخرى لأن يتولى منصبا مرموقاً، لكنه يؤثر أن يلتزم بسلوكه القديم ونحن حيارى فى أمرنا.. هل هو يمد فى عمره من حيث لا يدرى!! ولا ندرى!! أم أن النبوءة تدفعه إلى ما دفعت إليه مبارك من تفويت الفرصة المناسبة فى الوقت المناسب.
ومازلنا ننتظر مصير صاحبنا صاحب الطموح والنبوءة.. ولا ندرى أيهما ينتصر.
وعلى حين أن أحدنا يقول: إن النبوءة قتلت طموحه، فإن صاحبنا الأكثر قرباً منه وتقديراً له يقول: إن طموحه هو الذى قتل النبوءة لأنه حقق من النجاح والاعتراف ما تخطى قيمة المناصب، وما أجهض الخوف من المناصب، حتى إنه لو قتل غيلة فلن يكون فى نظر الناس إلا شهيدا، ولو أنه كان سار فى طريق المناصب ما كان حقق ما حقق، وهكذا فقد كانت النبوءة فى نظر صديقه نعمة عليه.. ولم تكن كما تتصورون نقمة!!
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا