الرئيسية / المكتبة الصحفية / مقالات الجزيرة / الجزيرة نت / “الناتو” في مواجهة “النانو”

“الناتو” في مواجهة “النانو”

 

 

تاريخ النشر : ٢٠١٤/٩/١٣

على الرغم من أننا نقرأ الاسم المختصر لحلف الأطلسي بالإمالة ليكون “النيتو” فإننا نكتبه بالألف،وكأنما كانت الحاسة السادسة للذين كتبوه على هذا النحو تنبئهم أن عصرا تاليا سيشهد حيرة للناتو أمام حركات سياسية صاعدة، تصفها الدول القديمة بأنها متناهية الصغر (نانو)، لكنها أصبحت فجأة تمتلك أدوات قادرة على مواجهة حلف الناتو بفضل النانو تكنولوجي!

لم تشهد الإنسانية في تاريخها الطويل ما شهدته منطقتنا العربية في الأسابيع الأخيرة من التحول الدرامي والكلي في طبيعة الحروب والمواجهات العسكرية، إلى صورة لم تكن متوقعة على أي مستوى من مستويات التفكير الإستراتيجي أو التكتيكي.

وفضلا عن هذا، فإن التحولات التي شهدتها الحروب لا تزال أصعب وأعقد من أن تستوعبها أجهزة المنظومات القديمة على الرغم من الجهود المحمومة التي بذلتها دول كبرى، بل وتفرغت لها أجهزة متخصصة في أحلاف عسكرية متمرسة في تحديث المنظومات والعمل على زيادة قدراتها المحللة والراصدة على حد سواء.

وإذا جاز لنا أن نؤجل التقييم التاريخي لمجمل ما حدث، فإنه لا يليق بنا أن نتجاهل حقائق جزئية متناهية الصغر تفاعلت وأصبحت قادرة على تطوير المشهد العسكري في أي منطقة كونية في اتجاهات مفيدة أو منتصرة للقضايا المتعلقة بقيم الحق والخير والسلام.

وفي هذا الصدد، فإني أفضل تناول التطور الحادث من خلال منظورين مهمين في كل المواجهات العسكرية، وهما: منظور الإعلام والحرب النفسية من ناحية، ومنظور المحاور والأحلاف من ناحية أخرى.

وفيما يتعلق بالمحور الأول، فقد ظهرت أهمية الإعلام الجديد (القائم على التواصل الاجتماعي وصحافة المراقبة الحية المباشرة) من خلال دوره الحاسم -وأحيانا البات- في تقليل بعض فرص التمادي الإقليمي في توريط بعض القادة لأتباعهم أو بعض الحكام لشعوبهم أو جيوشهم في مسارات تعودتها الحروب السالفة وكانت نتائجها -في مدييها القصير والبعيد- كارثية على الإنسانية.

ومع أننا كررنا كلمة “بعض” في كل الجمل السابقة من باب التحوط، فإن كثيرين يقدرون أن الأمور في حقيقتها باتت تميل إلى سيادة التوجه المقيد والملجم للمغامرات العسكرية (وللاندفاعات التكتيكية النزقة) على نطاق واسع لا إلى خصوصية حالة بعينها.

وعلى سبيل المثال، فإن ما حمى ليبيا والليبيين حتى الآن من تكرار تهورات بعض الانقلابيين في مصر كان هو الإعلام الجديد الذي فضح بدايات التوتر ومؤشرات التورط واتفاقات التدخل، وأرفق هذا الفضح الواسع النطاق بالتعبير المباشر والصريح عن رفض تام من جموع المصريين لمثل هذه المغامرة، وهو ما تجلى حتى في حرص الانقلابيين ومناصريهم على المسارعة إلى نفي مبدأ التورط دون الدخول إلى منطقة نفي تفصيلات باتت مؤكدة بما يسجل عليهم دلائل ملموسة من التورط المحسوس.

كذلك فإن اتساع رقعة مشاركات وإسهامات وإبداعات صناع الإعلام الجديد (من الهواة قبل المحترفين ومن أصحاب القضية قبل أصحاب المهمة أو الرسالة)، قادت الإعلام القديم من حيث لا يحتسب إلى أن يكون أكثر اتزانا وحكمة في تعليقه الروتيني على مجريات الأمور.

وعلى مستوى ثالث، فقد بدا لأول مرة من خلال الحرب الشرسة على غزة أن مجرمي الحرب من أمثال نتنياهو لن يكونوا ولن يظلوا قادرين للأبد على الإفلات من مسؤوليتهم عن جرائم الحرب.

وعلى مستوى رابع، فقد تفاعل -لأول مرة- الأثر الناشئ عن المظاهرات المندلعة في العواصم الأوروبية والأجنبية بما تكفل به التصوير اللحظي من توجيه حزمة ضوء مثيرة للرعب حتى في الأعصاب العربية المتآمرة.

المنظور الثاني الذي أريد أن أبعث الرغبة في التفكير فيه هو منظور اتسم بالتقلب الرهيب في سرعته وغير المتوقع في طبيعته فيما يتعلق بتكوين وتكون الأحلاف والمحاور، ولعل القارئ لاحظ أنني من باب الصياغة المستوعبة حرصت على أن استخدم الكلمتين الدالتين على الفريقين اللذين خاضا الحرب العالمية الثانية.

ومع أن الحروب المندلعة الآن شهدت حالات غير مسبوقة من بزوغ التحالفات غير المنطقية وغير المعقولة وغير القابلة للاستمرار (وبات هذا من الوضوح بحيث أصبح من المستنكر أن نعيد تعريف ما هو معروف من التحالفات والتناقضات)، فإن أي سيناريو عسكري أو إستراتيجي محتمل -ولو بنسبة ضئيلة- أصبح في ثنايا هذه الأجواء قابلا للحدوث المفاجئ أو الطوعي، لكنه في الوقت نفسه لن يكتسب الديمومة الزمنية ولا الجيوبوليتيكية بمجرد حدوثه مهما فرض نفسه أو أكد نجاحه أو استدعى قوته.

بعبارات أخرى، فإننا نريد أن نقول إننا أصبحنا ندرك بكل وضوح وبشفافية أيضا (والمقصود بالشفافية هنا أنها تطلع غيرنا أيضا على ما نراه نحن دون لف أو ليّ للحقائق أو تعتيم جزئي أو مؤقت)، أن كثيرا مما هو قابل للحدوث أصبح غير قابل للاستقرار التام (ولا حتى للاستقرار اللحظي)، وذلك في ظل ظليل من تعدد وتوالي حالات السيولة والتسييل والتجميد ومحاولات إعادة التجميد وإعادة التسييل والتبخير والتكثيف والتسامي (بمعناه الفيزيقي الكيميائي)، وكلها محاولات باتت ممكنة سياسيا ودبلوماسيا وإعلاميا وعسكريا أيضا حتى إن كانت مكلفة إلى حدود كبيرة ولا نقول قصوى.

ومن ثم، فإن إلحاح البحث عن رابطة جديدة وفاعلة لتحالف الأنظمة الإسلامية الجديدة أو الصاعدة أصبح يفرض نفسه سرا وعلنا مع كل ما يقتضيه من درجات أكفأ وأعلى من تلك الجدية المعهودة أو المفتقدة، بحيث تتفوق التجربة الجديدة في فلسفتها على ما تحقق وما استهدف عبر التجارب التحالفية العشرة السابقة في الجامعة العربية، وفي الوحدة السورية المصرية، وفي الاتحاد الهاشمي، وفي حلف بغداد (و حلف حيدر آباد) وفي منظمة المؤتمر الإسلامي، وفي اتحاد الجمهوريات العربية، وفي مجلس التعاون الخليجي، وفي مجلس التعاون العربي، وفي الاتحاد المغاربي، ومن قبل في إرهاصات وتجربة الهلال الخصيب.

وهنا تبرز تلك الفكرة الجوهرية التي عرفنا بتحيزنا التام لها، وهي الفكرة القائلة بأن تعميق وتعمق فهم التاريخ السياسي المعاصر تمثل ضرورة أكثر إلحاحا وأهمية من الحرص على تعجل الوصول إلى فهم سياسي نمطي للوضع الحالي.

كما تبرز فكرة أخرى كررنا الإلحاح عليها، وهي ضرورة حصر خلاف مجتمعاتنا السنية مع “الشيعة” في إطار سياسي بما في ذلك الفقه الشيعي الذي لا يختلف مذهباه الكبيران عن المذاهب الأربعة إلا في جزئيات ذات مردودات ودوافع سياسية.

وهنا أكرر على ضرورة الحرص على البعد بالنظرة إلى الشيعة عن تلك التي تنظر إليها على أنها إسلام من نوع خاص أو إسلام ثان أو إسلام بديل! فهذه الأنماط من النظر تمثل سياسة رعناء تكتنفها الخطورة القاتلة، كما أن الباطل الاستشراقي هو الذي صنعها وغذاها على مدى العقود الماضية.

وربما يمثل ما نصل إليه في ضوء إعادة قراءة الوضع الحالي في سوريا والعراق واليمن وفلسطين ومصر وليبيا، ما يلقي في كل الأحوال بالعبء علينا ونحن نناقش بأدوات القرن الحادي والعشرين ظاهرة لم تكن متوقعة الحدوث قبل القرن الثاني والعشرين، لكنها بدأت مبكرا وامتدت آثارها غير المتوقعة إلى دولتين متجاورتين مع اختلاف السيناريوهات في آليات الأداء والاستقبال والمواجهة والانطباعات والحكم.

ولم يعد ممكنا لنا أن نقفز على واقع موجود بالفعل بالقرب من منطقتنا العربية وهو الواقع الذي فرضته تجربة الوحدة الأوروبية، فيما يتعلق بتقليل سطوة ونفوذ فكرة الحدود السياسية في مقابل الانتصار للفكرة الإنسانية العامة، وهو ما يقتضي منا اليوم على سبيل المثال انتقاد سياسة المعايير المزدوجة في التعامل مع حركة “دولة الخلافة الإسلامية” قبل انتقاد الحركة وسلوكها.

فإن لم يكن “قبل” فعلى الأقل “بالمواكبة”، والتفكير الجاد في أن تبدأ المعاهد السياسية خطوات الحوار الجاد مع حركة “دولة الخلافة الإسلامية” من منطق سياسي وإستراتيجي وبعيدا عن الفكر الفقهي والأصولي، وإعادة قراءة الإيجابيات التي يمكن توظيفها من حركة “دولة الخلافة الإسلامية” في ضوء تنامي الغطرسة الصهيونية وتنامي التوسعات الحركية لإيران الدولة لا إيران الشعب ولا إيران المذهب.

تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت

     ولقراءة المقال على موقع الجزيرة.نت اضغط هنا

    للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com