تاريخ النشر : ٢٠١١/٧/٢٤
هذه قضية تتعلق بأصحاب فكر قادرين على مواجهة الحقائق من أجل مستقبلهم فى المقام الثانى، ومن أجل مستقبل الحرية فى المقام الأول، لهذا فإنى لا أجد حرجاً فى أن أتحدث عن بعض الدواء المُر لو لم أكن قادراً على وصفه، ولا على النصح به، ولا على تعاطيه.. وسأحاول أن أكون موجزاً إلى أبعد حد.
أولاً: أدخل مباشرة فى الموضوع فأقول: إن المجتمع الجديد لابد أن يملك شجاعة القرار الخاص بإيقاف الإصدارات الصحفية الشكلية التى لا تملك شيئاً إلا الترخيص، بينما هى تفتقد الهدف.. والرسالة.. والمهارة.. والقراء.. والسمعة.. ومن المؤسف أننا نملك من هذه الإصدارات عددًا لا بأس به كانت هناك أسباب معروفة لوجوده، وهى أسباب عجيبة ومعذبة، بل إن مجرد ذكر بعضها يجعل المرء معرضاً للعقوبة بموجب قانون العقوبات، لكن ماذا بوسع أى كاتب أن يقول عن إصدارة صدرت لمثل هذه الأسباب التى لا تسر صديقا، ولا تسوء عدوا؟ بينما هى تحقق الخسائر من العدد الأول؟ ومن العجيب أننى أبديت رأيى حين طلب منى ذات مرة، فنصحنى المحبون بألا أصرح بمثل هذا الرأى حتى لا يحسب على تاريخى أنى ساعدت على إغلاق نافذة مهما كان شأنها، وقيل لى إن التاريخ لا يرحم، وقد امتثلت لهذه النصيحة، ولا أزال ممتثلاً لها على المستوى الفردى، لكنى أظن أن الثورة العظيمة أوصلتنا إلى مرحلة ينبغى علينا فيها أن نكف عن النفاق بكل صوره. فإذا كان لابد من بقاء الإصدار فليكن إلكترونيا لا ورقيا حتى نخفف من المرتجع ومن المستهلك.
ثانياً: أدخل مباشرة إلى الموضوع من زاوية أخرى لأشير مجرد إشارة إلى الجرائم التى ارتكبت فى حق الصحافة ووسائل الإعلام على يد أربعة وزراء سابقين تمكنوا بوسائل شيطانية من استقطاع موازنات للدعاية من اللحم الحى من موازنة الشعب، واستخدموها بمثابة جزرة فى أيديهم، وورطوا بها صحفاً قومية ومستقلة فى اتخاذ مواقف منتصرة لهم على الشعب، كما ورطوا بها صحفاً قومية فى منع كُتّابها الكبار من نشر هجومهم على هؤلاء الوزراء الذين ضغطوا بورقة كانوا يجيدون اللعب بها وهى ورقة تأجيل وتأخير سداد مستحقات الصحف القومية وذلك من أجل منع نشر مقالات بعينها كانت تنتقد بكل أدب توجهات الوزراء فى صياغة أكثر من قانون تمس أغلى ما كان الشعب يملكه فى وجوده، وبقائه، وهويته، وثروته. ومما يؤسف له أن أحداً لم يفتح حتى الآن باب التحقيق فى هذه الجرائم المرتبطة باستغلال النفوذ، وإهدار الموارد، وممارسة التزييف والتضليل للعدالة.
ولست أدرى كيف يكون الضمان من أجل عدم تكرار هذه الجرائم الأربع التى ارتكبت بأموال الشعب على يد هؤلاء الوزراء الأربعة.. أصحاب الحملات الإعلانية الركيكة.. هل نحتاج تشريعا ذا عقوبات فورية، أم نحتاج تشريعا يلزم كل موظف مالى بألا يوقع أى ورقة تتعلق بمثل هذا الاتفاق الخبيث، وأن يجازى إذا وقعها، وألا تسقط الجريمة بالتقادم؟!
ثالثاً: كنت أسأل وأنا أعرف الإجابة عن جدوى التمسك بصيغة التعيين الأعمى فى مناصب رؤساء التحرير، وكنت أسأل مرة أخرى: هل يمكن أن يطرح الاختيار من بدائل متعددة بديلاً عن الاختيار الأعمى؟ وهل يمكن أن يتنحى صاحب الموقع عن موقعه فى يوم نهاية مدته حتى لو لم يصدر قرار بتعيين خلفه؟
واليوم أظن أن هذه الأسئلة قد أصبحت أصغر من المناخ العظيم الذى أوجدته الثورة، لهذا فإنى أعود إلى تكرار فكرتى فى إنشاء هيئة بعيدة تماماً عن مجلس الشورى (الذى كنت ومازلت أطالب بإلغاء وجوده فى صورته الراهنة) تملك وتدير كافة الوسائل والوسائط الإعلامية المملوكة للشعب، ولا أقول المملوكة للدولة، وتتولى بصفة ربع سنوية مراجعة ومناقشة تقارير الجهاز المركزى للمحاسبات، واتخاذ القرارات اللازمة لتصحيح المسارات أولاً بأول، أما عملية الاختيار نفسها فلى موقف يلخص خطواتها على نحو ما تسير الأمور فى بلدان الديمقراطية الحقيقية حيث يتقدم لها من يرون أنفسهم أهلا لها، وتتشكل اللجان للاختيار بالطريقة الرقمية على نحو دقيق بمنهج دقيق ليس هذا محلاً لتفصيله وإن كنت قد سجلته فى دراسة أخرى.
رابعاً: مع كل ما أؤمن به من أهمية اختيار الهياكل الاقتصادية المناسبة لأداء المهمات الفكرية، فإنى لا أشارك الدكتور عبدالمنعم سعيد إعجابه الوقتى بتجربة الوزير أحمد شفيق فى مصر للطيران، ولا فى تمثله لهذه التجربة حين يفكر للصحافة المصرية، وأظنه لايزال قادراً على أن يبحث فى ملفات «الأهرام» وغيرها عن التاريخ المشرف لاقتصاديات دور الصحف المصرية، وسوف يكتشف على سبيل المثال أن فكرى أباظة باشا كان كلما ادخر من دخله أو أجره أو أرباحه عن كتبه.. حوله من خزانته إلى أسهم فى «دار الهلال».. وسوف يكتشف أيضاً أن «دار المعارف» لم تؤمم أو تدمر إلا بسبب واحد ووحيد يصعب علىّ أن أذكره بصراحة، لكنى أكتفى بشق منه وهو أنها كانت تملك عملات حرة كانت مطلوبة لغرض مظهرى.. وسوف يكتشف ثالثاً أن مؤسسة صحفية عظيمة نالت قطعة أرض متميزة من أملاك وزارة الثقافة فى مقابل شيئين: أولهما ماكينة طباعة قديمة، وثانيهما أن تكف هجومها على تجاوزات مثقفين، وأن تفسح صفحاتها لهم ولوزيرهم للحديث عن أمجاد زائفة.
وسوف يكتشف من مثل هذه التصرفات أن النموذج الذى يدعو إليه عبدالمنعم سعيد وغيره لن يمنع التدهور، إنما سيكرسه، ولن يمنع الفساد، إنما سيؤصله وسوف يجعل الجهلة لصوصاً جبارين بالإضافة إلى جهلهم.. وقد رأينا الأدلة.
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا