تاريخ النشر : ٢٠١٣/٨/١
أصبح سعد زغلول في يناير/كانون الثاني ١٩٢٤ رئيسا لوزراء مصر بعد أن فاز الوفد في الانتخابات البرلمانية التي جرت في نهاية ١٩٢٣، بعد إقرار دستور ١٩٢٣ الذي صدر بناء على تمتع مصر بوضع جديد كرسه صدور إعلان ٢٨ فبراير/شباط ١٩٢٢ الذي اعترف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة.
هكذا أصبح بمقدور مصر أن تعيش تجربة ديمقراطية عاشتها من قبل فترات قصيرة في القرن التاسع عشر، وبالفعل بدأت في مصر حقبة ليبرالية سادتها فترات ليست قصيرة من الانقلاب على الديمقراطية، وقد اصطلح الكتاب والمفكرون في تلك الحقبة على أن يطلقوا على هذه الفترة من الخروج على النص الديمقراطي مصطلح ظريفًا يدل على إيمانهم بأن ما حدث هو الاستثناء الذي لابد أن يعود إلى أصله، كان هذا المصطلح الظريف هو “الانقلابات الدستورية”.
وقد اتخذ هذا المصطلح صورًا متعددة على أرض الواقع، واختلفت فتراته الزمنية كما اختلفت طرق العدول عنه.
وقد بدأت الانقلابات الدستورية -على حد هذا المصطلح الظريف- بداية مبكرة إذ كان أولها قد وقع في نوفمبر ١٩٢٤ بعد عشرة شهور فقط من تأليف وزارة الشعب، وهو التعبير الذي أطلق على وزارة سعد زغلول.
وكان هذا الانقلاب محصلة لمجموعة من المؤامرات المحبكة التي انساق الى بعضها شباب وطني ثائر طاهر ولكن طبيعة المؤامرة تكفل بالطبع استخدام وسائل لا يدرونها لتحقيق أخبث النتائج وأكثرها ضررا على مصلحة الأمة والوطن والشعب بل مصلحتهم هم أيضا .
كان المبرر المعلن لإخراج وزارة الشعب المنتخبة من الشعب من حكم الشعب هو أنها عجزت عن حفظ الأمن والنظام حيث تم اغتيال سر دار الجيش المصري وهو إنجليزي ذو دم غير رخيص.
وهكذا عزفت الصحافة في ذلك الوقت لحن الحديث عن العجز الحكومي في مواجهة الإرهاب، ولم يكن العازفون يومها يجدون حرجًا في أن يصلوا باتهاماتهم إلى سعد زغلول ووزارته.
كانت تلك الموسيقى الصحفية تعزف اللحن الابتدائي لسيمفونية كريهة المذاق عند الشعوب وهي سيمفونية تعطيل الدستور وحل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة. ومن البديهي أن الذين أخفقوا في انتخابات سابقة يرحبون بمثل هذا الخطوات.
لذلك فإن الذين لا يحبون الدستور ولا البرلمان يهللون في العادة لمثل هذه الخطوات، أما الذين تزعجهم المحاسبة والشفافية فيرون الدستور والبرلمان عبثا وضياع وقت.
وليس سرًّا أن كبار الفاسدين في نهاية عهد محمد حسني مبارك كانوا يطالبون بعودة سريعة إلى عصر بلا برلمان، وإلى إلغاء الجهاز المركزي للمحاسبات ومجلس الدولة لأنهما أكبر معيق للتقدم والاستقرار حسب قولهم.
لكن الشعب المصري الذي كان قد خاض لتوه انتخابات برلمانية نزيهة بلغ من نزاهتها أن سقط فيها رئيس الوزراء الذي أجراها، لم يكن على استعداد لأن يتنازل عن ديمقراطيته الجميلة، ومن ثم كان لابد من إنذار بريطاني، ومن تواطؤ مصري، ومن أن يأتي رئيس وزراء ضخم الجثة هادئ الأعصاب ليقول للجماهير إنه أتى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولم يكن ذلك في الحقيقة إلا مؤامرة مكشوفة.
وفي خطوات متفاوتة السرعة، تم حل البرلمان ثم أجريت انتخابات جديدة تصور منظموها أنها ستحقق لهم تمثيلاً ليس فيه إقصاء لغير الوفديين أو لغير الزغلوليين، لكن المفاجأة الكبرى حدثت وعاد الزغلوليون إلى مقاعد البرلمان وإلى اختيار سعد زغلول في خطوة حاسمة لم يكن لأرباب المؤامرة على الدستور أمامها إلا أن يعبروا بأقصى سرعة عن غضبهم منها، فتم حل البرلمان في نفس يوم انعقاده، حيث عرف هذا البرلمان بأنه برلمان الساعات الثماني، وإن كان الأولى أن يسمى ببرلمان الساعة الحاسمة التي كشفت نوايا أصحاب خارطة الطريق الذين بذلوا جهودا في التعمية والتمويه على هدفها الحقيقي المتمثل في إقصاء الأغلبية بكل الوسائل الممكنة.
ومن عجائب القدر أن أرباب الأقلية الذين ظنوا أن الدنيا دانت لهم وأنها بسبيلها إلى الدوام لهم سرعان ما عضوا أصابع الندم حين وجدوا أنفسهم يعاملون بطريقة مزرية لا يستطيعون مواصلة تحملها.
وقبل أن ينقضي عامان على هذا الانقلاب الأول كان أرباب الأقلية قد وجدوا طريقهم إلى أرباب الأغلبية، ليجلسوا مرة أخرى ويتفقوا على شيء واحد هو الوقوف ضد الطغيان، وإنهاء آثار العدوان الذي مثله الانقلاب على الديمقراطية.
وعرفت مصر في ١٩٢٦ برلمانا توافقيا حقيقيا اختارت لرئاسته ذلك الرجل الذي توج من قبل زعيما للأمة وقائدا لها، ورئيسا للوزراء، وقد قبل الرجل التنازل عن رئاسة الوزراء ليكون رئيسا لهذا البرلمان التوافقي الذي استطاع أن يعيد إلى مصر وجهها الذي تستحق
وفي ظل هذا البرلمان ترأس عدلي يكن، وعبد الخالق ثروت، ومصطفى النحاس باشا ثلاث وزارات ائتلافية كان للوفد فيها الأغلبية، وكان من الممكن جدا لهذا البرلمان التوافقي وللحكومة الائتلافية أن يطول عهدهما لولا أن رجلاً معتزًّا بنفسه رأى نفسه أحق برئاسة الوزراء من مصطفى الخامس باشا.
كان هذا الرجل هو القطب محمد محمود باشا الذي يعتبر من أبرز زعماء الأحرار الدستوريين، ورغم أنه كان من حزب الأقلية فقد كان يظن أن عوامل من بينها انتماؤه الاجتماعي ومواصفاته الشخصية، وعلاقاته القديمة بزغلول ستدفع به إلى الموقع الأول في الدولة، وفاته بالطبع أن مكانة الرجل الأول تتحدد اعتمادا على الأغلبية قبل أي اعتبارات أخرى.
وهكذا أثار محمد محمود باشا مؤامرة جديدة على الدستور بدأت بانسحابه هو وثلاثة من وزراء النحاس باشا من الوزارة، حتى تظهر الوزارة وكأنها تصدعت وفقدت مقومات بقائها.
وكعادة كل مؤامرة فإن عناصر التآمر سرعان ما انكشفت وظهرت، فأقال الملك فؤاد النحاس، وعهد إلي محمد محمود نفسه بتشكيل وزارة جديدة، وكان لابد أن يمتنع الوفديون عن المشاركة فيها، وبدأت الوزارة أعمالها بالحديث عن تأجيل البرلمان.
وسرعان ما انكشفت الأبعاد العميقة للمؤامرة فتعطل الدستور وحل البرلمان وبدأ عهد جديد من الدكتاتورية (١٩٢٨).
لكن الشعب المصري العظيم كان قادرا مرة أخرى على أن يعيد الأمور إلى نصابها بعد عام من الكرّ والفرّ الذي لا يمكن أن ينتصر فيه إلا الشعب.
وانتهى الانقلاب الدستوري على حد وصف معاصريه إلى النهاية التي يعرفها كل قارئ للتاريخ وهي انتصار الشعب، لكن هناك نهاية أخرى تلازمها وهي تربص عدد من الساسة المستبدين، وهكذا أراد الملك فؤاد مرة أخرى ليقود انقلابًا دستوريًّا جديدًا مستعينًا برجل شارك في كل النزاعات الاستبدادية بقلب فولاذي معبرًا عن عقيدته في أن الشعب طفل لم يبلغ بعد سن الرشد، وهي المقولة الجوهرية في سمفونيات الاستبداد مهما كان العازفون لها.
وفي هذه المرة (أو في هذا الانقلاب) كان على الشعب أن يحارب العنف الدامي الذي عرف به صدقي باشا الذي لم يكن يقف في وسائله المبتكرة عند حد من الحدود.
ومعلوم أن صدقي طغا وتجبر حتى جعل زعيم الأمة يقف ذات يوم بعد الصلاة ليدعو عليه والجماهير تؤمن على الدعاء، ولأن أبواب السماء تنفتح للمظلومين ودعائهم، فإن اليوم التالي شهد سقوط صدقي باشا مصابًا بالشلل النصفي، رغم أنه كان قوي البنية، سليم الجسد، مواظبا على الرياضة.
كان صدقي قد وضع دستورا بديلاً لدستور ١٩٢٣ ، وهو ما لم يجرؤ عليه أحد قبله، وأعاد تنظيم مقدسات الدولة على نحو يصعب معه العودة إلى عهد حكم الشعب، ومع هذا فقد كافح الشعب إلى حدود لم يسبقه إليها شعب آخر، واستطاع في النهاية أن ينتصر وأن يصل بنفسه إلى حكم الشعب مرة أخرى.
وقد شهدت هذه الفترة الواقعة العبقرية التي ارتفع فيها رأس العقاد وهو يهدد بسحق من يريد أن يتعدى على حقوق الشعب، ودفع العقاد بإرادته وبكرامته ثمن هذه الكبرياء العظيمة التي أبقت رأسه وقامته فوق رؤوس وقامات كل من احترف الكتابة أو هواها في العصر الحديث.
وبلغ من دفاع الشعب عن دستوره أن اقتنعت السلطات والنخب التي لا تعيش إلا بالقرب من القصور بأن تعطيل الدستور أصبح أمرًا قريبا من الكفر لن يرضاه الشعب ولن يسامح من يقترفه، وهكذا عاد دستور ١٩٢٣ ليبقى مصونًا بأفئدة الشعب المصري حتى حطمته -ضمن ما حطمت- دبابات الجيش.
ولما جاء الملك فاروق إلى الحكم عاش حياته كلها بعيدا عن فكرة تعطيل الدستور حتى مع تجرئه على حل البرلمان في ١٩٣٧، وفي ١٩٤٤، و١٩٥٢.
وكانت البرلمانات الثلاثة برلمانات وفدية تمامًا، وفدية الأغلبية والطابع والهوى والإنجاز والمصير أيضا.
وبدأ الملك فاروق عهده بعدما كان الوفد قد أنجز كثيرًا من دعائم ملكه في فترة حكم مجلس الوصاية (١٩٣٦-١٩٣٧)، وليس من الممكن أن يتجاهل إنجاز معاهدة ١٩٣٦ بين مصر وبريطانيا، ثم اتفاقية إلغاء الامتيازات الأصلية ١٩٣٧وتولية فاروق نفسه بعد ما بلغ سن الرشد.
وشهد عهد فاروق انقلابات من نوع جديد، كان أبطالها رجال القصر والحاشية، وقد بدأت هذه الانقلابات في نهاية ١٩٣٧ حيث صورت سمفونيات القصر أن عهد النحاس والوفد لابد أن ينتهي لأنه فشل في تحقيق العدالة وتجنب الإقصاء، وأن عهده شابته المحسوبية والانحياز إلى الأغلبية على حساب غيرها.
وهكذا تشكلت في نهاية أيام ١٩٣٧ وزارة برئاسة محمد محمود سميت الوزارة الكبرى، وقد ضمت فيمن ضمت وجوهًا وطنية قديمة من طبقة أحمد لطفي السيد، وعبد العزيز فهمي بكل ما يمثلانه من تاريخ.
كما ضمت هذه الوزارة من خرجوا على النحاس ومكرم فيما يسمى بانشقاق أحمد ماهر والنقراش وقد أصبح لهذين الرجلين حزب جديد هو الهبة السعدية.
كذلك كانت هناك بقايا من أحزاب الملك، وكان هناك الحزب الوطني الذي طال ابتعاده عن العمل السياسي مرتميا في حضن شعاره الرومانسي “لا مفاوضة إلا بعد الجلاء”.
ومع أن أنصار هؤلاء كثيرين فإنهم لم يكونوا أبدًا أغلبية، وكان تصويرهم البلاغي على أنهم “الكل” أو “الأغلبية” شبيها بتصوير 30 يونيو/حزيران ٢٠١٣ السينمائي، وسرعان ما تكشف أنه تصوير مجازي مجاف للحق والمنطق وحركة الشارع والتاريخ
وهكذا كان لابد للملك فاروق أن يتخلص بسرعة من هذا الائتلاف الكبير حسب ما يزعمون قبل أن ينقضي عليه عامان، ولم يكن أقطاب هذا الائتلاف يملكون من الشجاعة ما يمكنهم من العودة إلى تيار الأغلبية على نحو ما عاد أسلافهم قبل ١٣ عاما أي في ١٩٢٦، وإنما كان الوضع الجديد قلقا إلى أبعد الحدود مع ظهور نذر الحرب العالمية الثانية.
وهكذا تعاقب ثلاثة رؤساء للوزارة قبل أن يدرك الملك فاروق الحقيقة التي سبقه إليها البريطانيون، وهي ضرورة عودة حكم الشعب للشعب، أي أن يعود النحاس باشا لتشكيل وزارة وفدية خالصة وليست وزارة ائتلافية تتصدع أو تقبل التصدع حسب الطلب على نحو ما حدث مع الرئيس محمد مرسي بعد ستين عاما بالتمام والكمال.
عاد النحاس إلى الحكم (فبراير/شباط ١٩٤٢)، وعاد الملك فاروق إلى التربص المتكرر حتى جاءته فرصة طال الإلحاح عليها في أكتوبر/تشرين الأول ١٩٤٤، وعاود الائتلاف (الوزاري والبرلماني) لا الدستوري ولا العسكري، معتمدًا في هذه المرة على صاحب الانشقاق الأكبر في عهد الخامس باشا وهو أحمد ماهر الذي لم يلبث في الحكم إلا أقل من خمسة شهور انتهت بمصرعه (فبراير/شباط ١٩٤٥) في الليلة التي كان يحصل فيها على موافقة البرلمان على إعلان دخول مصر للحرب العالمية، حتى تنضم إلى الحلفاء في تأسيس المنظمة الدولية الحديثة التي هي الأمم المتحدة.
وتواصلت الأحداث بما في ذلك حرب فلسطين أكبر حدث عسكري عربي في ذلك الوقت، والوفد والأغلبية والنحاس مبعدون عن الحكم. لكن المنطق والحاجة فرضا عودة الوفد الذي لم يكن يقبل العودة إلا بانتخابات برلمانية تؤكد له حقه الطبيعي.
وهكذا عاد الوفد ليحكم أكثر من عامين(1952-1950) حتى كان حريق القاهرة، وهو الحادث الذي اتخذه المتآمرون سببًا لإبعاد الوفد عن الحكم، ولبدء مرحلة انتقالية جديدة سرعان ما توجت بالانقلاب العسكري المعروف باسم ثورة ٢٣ يوليو/تموز1952.
ولأن هذا الانقلاب كان الأخطر، فقد كان كفيلا بالقضاء على ملامح الديمقراطية في مصر، وعلى روح الديمقراطية في نفوس أفراد النخبة الذين أصبحت مصالحهم المباشرة وغير المباشرة مرتبطة تماما بغياب الديمقراطية لا بوجودها، وبمحاربة الديمقراطية لا بالدفاع عنها، وبالتقليل من قيمتها لا بتثمينها
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت
ولقراءة المقال على موقع الجزيرة.نت اضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا