الرئيسية / المكتبة الصحفية / أول مؤرخي القرن العشرين

أول مؤرخي القرن العشرين

تاريخ النشر : ٢٠١١/١٠/٩

(1)
استعمل النقاد العرب لفظ «المخضرمين» فى وصف الشعراء الذين قدر لهم أن يعيشوا فى عصرين متعاقبين مختلفين، ويبدو هذا اللفظ منطبقا على أحمد شفيق الذى عاش أكثر من عصرين

، لكنه من باب الطرافة عاش فى القرنين التاسع عشر والعشرين، وعاش فى كل من هذين القرنين قدر ما عاش فى القرن الآخر، وقد كان واحدا من مجموعة من الأفذاذ الذين قدر لحياتهم أن تتوزع بالعدل والمساواة على القرنين، فقد عاش أحمد شفيق (1860 – 1940). أى أنه عاش أربعين عاما فى كل قرن، أما المنفلوطى «أمير البيان» فقد عاش أربعة وعشرين عاما فى كل قرن (1876 – 1924)، وأما شوقى «أمير الشعراء» فقد عاش اثنين وثلاثين عاما فى كل من القرنين (1868 – 1932)، أما الشيخ محمد رشيد رضا فقد عاش خمسة وثلاثين عاما فى كل قرن من القرنين (1865 – 1935).
(2)
أحمد شفيق بلا شك هو مؤرخ عصره، ومع أنه كان رجلا أكاديميا من طراز متقدم فإننا لا ندرى سرا لروح التعالى التى يعامله بها أساتذة التاريخ الحديث المعاصرون،إذ نرى كل واحد منهم يحرص على أن يصور الأمور كما لو أن أحمد شفيق لا يحظى برضاه الكامل مع أن هذا الرجل هو صاحب الفضل الأول علينا جميعا فى مناطق كثيرة من التى عملنا فيها، وقد نقلنا كثيرًا عما مهده وهيأه ولخصه لنا، مع هذا فإن آفة الجامعة المصرية فى استعلائها غير المبرر تدفع أحد أساتذتنا إلى القول: إن أحمد شفيق كان مؤرخا من النمط القديم، أو من النمط قبل الأكاديمى، وكأن التاريخ اخترع فى الجامعة!! ويصفه آخر بأنه من طراز مؤرخى الحوليات، وكأن التاريخ بالحوليات سبة أو نقيصة أو شىء مما لم يحسب من التاريخ، ويشير ثالث إلى افتقاده الحديث الأيديولوجى مع أن الحديث الأيديولوجى هو الذى أفسد التاريخ على يد أساتذتنا حتى أصبح التاريخ فى كثير من فصوله التى كتبوها غير قابل للقراءة، ولا للتعامل معه باعتباره كائنا حيا، والتاريخ فى واقع الأمر لا يصلح إلا أن يكون كائنا حيا بكل ما تعنيه كلمة الحياة.
فإذا تركنا الأحكام «العلوية» على أحمد شفيق، راعنا أن نجد كل الذين كتبوا عن الرجل باستثناء (نادر) قد استسهلوا النقل عن الأستاذ عباس محمود العقاد بما تغرى به كتاباته الواسعة العريضة من نسيج حى يمكن للجميع أن يستخدموه فى صناعة كل ما يضعون عليه أسماءهم، ومن العجيب أن نحس بأن ما قرأه هؤلاء لأحمد شفيق نفسه من مذكراته التى عبر بها عن نفسه وعن تجربته يقل عما قرأوه للعقاد فى التعريف به، وهكذا فإن الكتابة عن أحمد شفيق لاتزال متأثرة بالمنهج العقادى حتى مع إنكار الكاتبين للعقاد والنقل عنه، وإن أكتفاءهم فى أحسن الأحوال بالإشارة إليه فى هامش واحد من الهوامش ذر للرماد فى العيون.
ومن الطريف أن العقاد استشهد فى الكتابة عن أحمد شفيق ببعض نصوص أحمد شفيق نفسه، وهذا أمر طبيعى، لكن المدهش أن أساتذتنا الذين كتبوا عن أحمد شفيق لم يستشهدوا بفقرات أخرى من أحمد شفيق، وإنما اكتفوا بما انتقاه لهم الأستاذ العقاد، وأعادوا كتابة التعليق على نصوص أحمد شفيق بأسلوبهم، مما أضاع علينا فى نقولاتهم أن نستمتع بإشراقة العقاد وفلسفته.
(3)
وفى جميع الأحوال على نحو ما يقال للخروج من مثل هذه الجزئية إلى الجزئية الأكبر، فإن أحمد شفيق يظل اسما بارزا فى الأدبيات التاريخية بما يجعل التعليق عليه وعلى أعماله أكبر من أن يكون مجالا لمقالة واحدة، أو فصل واحد ذلك لأن هذا الرجل قد غطى بقلمه أحداثا ما لا تقل عن ستين عاما مبديا فيها آراء تفرد بها وانفرد بها، فقد تفرد بقدرة متميزة وخاصة على الحكم على الأمور، كما انفرد بكثير من المعلومات التى لم تتهيأ لغيره على نحو ما تهيأت له، وهو بلا جدال مؤرخ العصر الذى عاشه، وقد عاشه قريبا من الحاكم ثم عاشه بماض طويل هيأ له فى الفترة التالية لابتعاده عن الحكم أن يطلع، وأن يخالط وأن يناقش، وأن ينظر إلى تجربته هو نفسه من شرفة التاريخ، وهذه نعمة لا يوازيها إلا أن يكون صاحبها إنسانا سويا على نحو ما كان أحمد شفيق، وهكذا قدر لأحمد شفيق أن يكون جزءا من الضمير المصرى على مدى عصوره، وهو يمثل الحلقة التى تصل بين الجبرتى والرافعى، ويغطى معظم الفترة الواقعة بين الرجلين، ومع هذا فإن أساتذتنا سيسمونه مؤرخ حوليات، وسوف يظلون يتعالون على مذكراته ما قدر لهم أن يتعالوا.
(4)
ومن الحق أن ننصف أحمد شفيق فى وسائله التى أنجز من خلالها عمله، فقد كان ذكيا إلى أبعد حدود الذكاء فى اختيار القوالب التى كتب فيها تجربته، وكتب فيها عصره، وباختصار شديد فإنه يمكن لنا أن نلفت النظر إلى حقيقة أنه كتب التاريخ من خلال المذكرات فى الحقبة التى كان له فيها دور مؤثر فى صناعة التاريخ، ثم كتب التاريخ من خلال الحوليات فى الحقبة التى قدر له أن يعيشها بعد اعتزاله الحكم، وفى هذين الميدانين العظيمين (الحوليات والمذكرات من قبلها) تجلى الرجل إنسانا رائعا، وكاتبا مبينا وعالما محققا، ومؤرخا مدققا، وقاضيا عادلا، وباحثا واعيا لحقائق المجتمع والاقتصاد، والعلاقات الدولية، وحركة التاريخ.

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com