أربعة في مقابل واحد

 

تاريخ النشر :٢٠١٣/٩/١٧

يتفق كثير من المثقفين والمفكرين على أن وجود الجيش في قمة السياسة منذ العام ١٩٥٢ مثل مجموعة من المصاعب الوطنية التي تركت آثارا سلبية طويلة المدى على منسوب الوطنية، وحركة التنمية، وعلى العلاقات الخارجية لمصر، بل إن بعضهم يرى أن وجود الجيش في السلطة أثر على الاستقلال الوطني وآذاه بقدر ملحوظ.

1- ليس من شك في أن هزيمة 1967 ومن قبل 1956 قد بلورتا فكرة أن من الخطأ أن تترك الحرب للعسكريين وحدهم، فقد كان الخطأ الأكبر في الحربين هو عجز السلطة ذات الجذور العسكرية عن تقدير الموقف بطريقة سليمة، ولو أن الموقف كان قد قدر بطريقة لها أي حظ من الحقيقية أو الواقع ما كانت الهزيمتان قد وقعتا على نحو ما حدث، ذلك أن الأمور في الحربين سارت على نحو ما تُصوِّرُه أجواء الحماسة في الروايات التاريخية، لا على نحو ما تقتضيه المعارك الحربية وما تتطلبه من رجال السياسة.

وقد كان من سوء حظ مصر أن كان وزير خارجيتها في العام1967 هو الآخر عسكريا، وهكذا لم يكن من المستغرب أن تغيب العوامل الدولية عن ذهنه تماما، بل إن وزير الخارجية التقليدي الذي كان قد صعد إلى منصب مساعد الرئيس للشؤون الخارجية (وهو الدكتور محمود فوزي) كان أقرب على الدوام إلى التأمين على ما يراه العسكريون، مهما كان حجم الخطأ الدبلوماسي أو الخارجي فيه.

وقد اضطرت مصر بعد هزيمة 1967 لأن تسمح بوجود سوفياتي مكثف، ثم اضطرت بعد معاهدة السلام لأن تسمح بوجود أميركي وثيق الصلة، وهكذا تعاقبت على الاستقلال الوطني ثلاث قوى ضاغطة تحت مسميات مختلفة:

-عدوان أو احتلال إسرائيلي. -تعاون أو تبعية سوفياتية. -شراكة أو قواعد أميركية.

مع كل ما يوحي به هذا الضغط الخارجي من انتقاص واضح أو خفي للسيادة الوطنية التي لم تشهد مثل هذا الضغط إلا في عهد العسكريين، حيث جاء حكم رجال الجيش ليكرس انتقاصات متوالية وأنماطا مختلفة من تهديد الاستقلال الوطني.

والواقع أن الحديث البسيط للمواطن العادي عن أن الجيش المصري فضل أن يحكم بدلا من أن يحارب حديث ظالم أو قاس، لكنه يجد على أرض الواقع دلائل كثيرة على صحة وصواب الاستنتاج فيه، ذلك أن جيل عبد الناصر آثر أن يتولى القيادة والحكم والإدارة على أن يحارب في المعركة الحقيقية التي تنخرط فيها الجيوش في سبيل الأوطان.

2- على صعيد ثان، فإن إدارة العسكريين لمقدرات التنمية وآفاقها كانت أضعف بكثير من أي إدارة مدنية لهذه القضايا. ومع أن المعارضين لمثل هذا الرأي قد يرفعون رايات الاحتجاج بنجاح فلان أو علان، هنا أو هناك، فإن واقع الأمر يدل دلالة واضحة على أن الانهيار السريع كان من حظ كثير من المؤسسات الاقتصادية الناجحة عندما تم إسناد أمرها إلى العسكريين.

ولا تمكن مناقضة هذه الفكرة بالحديث -على سبيل المثال- عن نجاح صدقي سليمان الذي يضرب به المثل في التفرغ لإنجاز السد العالي، أو نجاح محمود يونس في إدارة فريق قناة السويس، ذلك أن عصر الثورة نفسه شهد خطوات تالية كانت كفيلة بإظهار تفوق الفرص البديلة على هذه الفرص التي تم عزف الألحان لها، كما أن نجاح صدقي سليمان كان في مجمله راجعا إلى شخصه الملتزم ودراسته الهندسة قبل العسكرية، أما محمود يونس فقد تكفل العسكريون أنفسهم بإرساله مع مجده السابق إلى غياهب النسيان وكأنه لم يبق في منصبه عشر سنوات متصلة. وقُلْ مثل هذا في كل نجاح حققه عسكري في موقع اقتصادي، فقد كان الحرص دائما وأبدا على سلب حقه في هذا النجاح حتى لا يكون هناك بالطبع غير ناجح أوحد.

ومع أن نظرية الناجح الأوحد ماتت مع وفاة عبد الناصر إلا أنها ألقت بظلالها على السنوات التالية وحتى نهاية عصر مبارك، وكانت الفكرة الدائمة هي أنه يكفي فلانا ما حقق من نجاح، أو أنه كان فلان ناجحا في المجال الفلاني فلما انتقل إلى المجال الفلاني الآخر لم يواصل النجاح، وهكذا ظلت مثل هذه النغمات سائدة تماما طيلة الحقبة العسكرية (1952- 2011).

3- كان الميدان الثالث الذي شهد تراجعا ملحوظا في ظل حكم العسكريين هو مجال المجتمع المدني، وقد تصادف أن شهدت مصر هذا التراجع في فعالية المجتمع المدني في ذات الوقت الذي كان العالم يفسح له المجال ويغذيه ويحميه ويفخر به، ومن العجب أن مصر التي كانت رائدة في ميدان العمل الأهلي والتطوعي أهملت هذا المجال إلى حد التوقف.

وكان الرئيس عبد الناصر نفسه يجاهر بأن هذه المهام هي مهام الدولة ذاتها في المقام الأول وليست مهام جمعيات أهلية أو خيرية. وفي مقابل إصرار عدد من الجمعيات على البقاء وعدم قابليتها للفناء بحكم عوامل تاريخية كثيرة، فقد قبل عبد الناصر بوجود هذه الجمعيات مع إشراف صارم بلغ حد أن يكون الرئيس العام للجمعيات أحد ضباط القوات المسلحة، وكان المثال البسيط على هذا أن الجمعية الشرعية الشهيرة التي أسسها الشيخ محمود خطاب السبكي أصبحت تحت رئاسة الفريق عبد الرحمن أمين الرئيس العام للجمعيات الشرعية (!) ويليه رئيس الجمعية نفسه.

وكانت النتيجة الطبيعية لمثل هذه السلوكيات الرئاسية أو العسكرية أن ضعف اهتمام المصريين بالسياسة العامة والمدنية، إضافة إلى الضعف الناشئ عن خوفهم من اعتقالات السياسيين المنتمين للأحزاب أو الأيديولوجيات.

وقد امتد هذا الأثر من المجتمع المدني إلى المجتمع الدولي وليس هذا بالأمر المستغرب، فنحن نعرف أن جناحا كبيرا من المجتمع هو في حقيقته مجتمع مدني، فالصليب الدولي على سبيل المثال لا يزال بمثابة مجتمع مدني، وكل الجمعيات العلمية في جميع المجالات لاتزال كذلك، وقُلْ مثل هذا في الاتحادات الدولية والإقليمية ولجانها القومية. ولم يكن النظام العسكري ليسمح بأي حال من الأحوال أن تنمو علاقات دولية في مثل هذه الميادين من وراء ظهره (كما يقول) أو من تحت ذقنه (كما يقول الناس).

ولهذا كان التضييق المباشر وغير المباشر على مشاركات المصريين في أي نشاط خارجي أمرا معروفا ومحددا وواضح المعالم، ولم يكن المصري المسافر إلى الخارج في عهد عبد الناصر ليسمح له بأكثر من خمس دولارات تكفيه لركوب إحدى وسائل المواصلات العامة من المطار الأجنبي إلى وسط البلد الذي يقع فيه المطار، وعليه أن يتصرف فيما بعد ذلك!

4- وقد أبانت الدراسات والأدبيات التاريخية عن أن العلاقات الخارجية الرسمية في العهد العسكري لم تكن أحسن حظا من العلاقات الخارجية المدنية أو الأهلية، فقد تنامت مشكلات الخارجية المصرية في تعاملها مع الخارج إلى حد لم يكن متصورا، وكان وراء هذا ضباط يفضلون ضيق الأفق على سعته، وضيق الصدر على رحابته، وضيق القيود على سعة الانطلاق.

وهكذا أصبح الطابع الحكومي أو الروتيني في سفاراتنا بديلا عن الطابع الدبلوماسي، كما أصبح التجسس ومراقبة المصريين بالخارج أولى وأهم بكثير من محاولة خدمتهم، وانصرف الدبلوماسيون إلى أنشطة موازية لم تقف عند حدود نموذجية أو رومانسية من قبيل حب أو دراسة فنية، أو دراسة أكاديمية وإنما انحدرت في بعض الأحيان إلى تجارة العملة والممنوعات. كانت محصلة تدهور الأداء في هذه المجالات الأربعة (وهي ليست كل الميادين بالطبع) أن تدهور الشعور بالوطنية المصرية إلى حد بعيد، فضعف الانتماء وضعف الفهم كما ضعفت روح الفداء والتضحية، وتدهورت مكانة قيم كثيرة من طراز العطاء والتعاون والإيثار والمحبة وحسن الجوار.

وعلى سبيل المثال فقد تأثرت الوطنية المصرية في ظاهرها وفي باطنها على حد سواء، وأصبح الحديث عن الوطنية بمثابة ذكريات رومانسية في بعض الأحيان، أو أصبح حديثا عن كابوس مرتبط بالتجنيد وما يمثله من خدمة إجبارية قاسية وغير إنسانية في أحيان أخرى.

وفي مقابل هذا، فإن الإعلام الموجه والموالي ظل بمثابة الورقة الرابحة التي أجاد قادة العسكريين توظيفها بنسبة تفوق المائة في المائة، وقد امتثلت هذه الورقة للنجاح وأصبح الإعلام مواليا، بل إنه فرض على نفسه -بقبول واضطرار معا- رقابة الخوف، ورقابة التملق، ورقابة الجيش، حتى بات بحق صوتا للعسكريين.

ولما حدثت ثورة ٢٥ يناير/كانون الثاني 2011 في مصر كان الإعلام المصري أسرع الناكصين عن طريقها، وبدأ هذا الإعلام المصري مبكرا تفتيت الثورة وتجميدها ثم محاربتها وشيطنتها إلى أن وصل الحال بالإعلام المصري العام (الرسمي) والخاص ورجال الإعلام إلى الدعوة الصارخة إلى الكفر بالثورة وبالديمقراطية، بل وبالحرية أيضا.

ولم ينتبه كثيرون في البداية إلى أن الإعلام سيقف هذا الموقف من الثورة التي اندلعت في ٢٥ يناير/كانون الثاني 2011، ذلك أنه قد فاتهم أن أثر الحكم العسكري في الإعلام يفوق أثره في أي شيء آخر، وبخاصة أن الدولة أو “دولة العسكر” كانت تحتكر الإعلام بطريقة مباشرة وغير مباشرة.

تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة نت

ولقراءة المقال على موقع الجزيرة.نت اضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com